بقدر ماجاء الكتاب الجديد للدكتور زاهي حواس "أسطورة توت عنخ آمون" حافلا بالحقائق الجديدة والتفاصيل المشوقة فإنه يشكل في الواقع خطوة جديدة وكبيرة على طريق استكمال المشروع الثقافي لمثقف وطني نذر نفسه وكرس علمه دفاعا عن مصر الخالدة ورسالتها الحضارية للعالم قاطبة. وتحول حفل توقيع الكتاب الجديد "أسطورة توت عنخ امون" مساء امس الأول "الإثنين" والذي يتضمن معلومات جديدة عن هذا الملك المصري الشاب المثير للجدل، لأمسية ثقافية كان من الطبيعي أن تشهد مناقشات حول قضايا مثل "لعنة الفراعنة" وتفاصيل وفاة توت عنخ امون التي بقت محاطة بالألغاز. ويطرح زاهي حواس في كتابه الجديد الذي تولى صوره ولوحاته البديعة الفنان والمصور الإيطالي ساندرو فانيني فرضية جديدة فحواها أن توت عنخ امون لم يقتل وانما سقط من عجلته الحربية أثناء رحلة صيد في صحراء منف. ويعد هذا الكتاب الذي اتسم بكبر الحجم والقطع عاشر كتب الدكتور زاهي حواس الذي عرف فن الكتابة الصحفية وله مقالات في جريدة الشرق الأوسط التي تصدر بالعربية من لندن اغلبها تتعلق باهتمامه الأصيل وهو مجال الآثار. والى جانب شخصيات عامة ومسؤولين حاليين وسابقين مثل السيدة جيهان السادات قرينة الرئيس الراحل انور السادات ووزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي وعمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية وأحمد أبو الغيط وزير الخارجية الأسبق والدبلوماسي والبرلماني السابق الدكتور مصطفى الفقي اكتظت القاعة الملكية بفندق ماريوت القاهرة بمثقفين وفنانين مثل الشاعر الكبير فاروق شوشة والسيناريست وحيد حامد وعزت العلايلي وحسن كامي ومحمود قابيل ولبنى عبد العزيز وسميرة أحمد وليلى علوي. وفيما تولى الفنان سمير صبري تقديم فقرات حفل التوقيع وكانت هذه الاحتفالية قد بدأت بعرض فيلم وثائقي عن الملك توت عنخ امون واختتمت بأغاني للمطربة عزة بلبع وبعض المقطوعات الموسيقية وسط اجواء جمعت مابين العراقة والأبهة والحميمية والمشاعر الدافئة وداعب زاهي حواس بعض اصحاب الأصوات العالية والصاخبة محاولا تخويفهم من "لعنة الفراعنة وامكانية أن يرسل لهم فراعنة صغار أثناء الليل أن لم يلتزموا بالانضباط". وتأمل مسيرة زاهي حواس تكشف عن شخصية ثقافية مصرية تذوب عشقا لتراب هذا الوطن بقدر ماتنتمي لهذا الطراز من الرجال الذين يؤمنون بالأفعال ولايكتفون بالأقوال ويسعون دوما لتحقيق إنجازات على الأرض مع تطبيق اصيل لثقافة الاتقان وانفتاح ثقافي على كل ماهو جديد في العالم الخارجي. ومن هنا حق للفنان محمود قابيل أن يقول أنه يحرص دائما على قراءة كتب الدكتور زاهي حواس كأحد افضل من كتبوا عن التاريخ المصري القديم منوها في تصريحات صحفية باسهاماته اللافتة في التعريف بتاريخ وحضارة مصر الخالدة. وعرف زاهي حواس بعلاقاته الوثيقة بعدد من أبرز المثقفين والفنانين مثل الكاتب الراحل انيس منصور والفنان عمر الشريف كما أنه صاحب شخصية متسامحة ومحبة للطرائف والمداعبات حتى أنه وصف نفسه "بصائد المومياوات". والدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق ولد في الثامن والعشرين من مايو عام 1947 في بلدة العبيدية بدمياط وتخرج من كلية الآداب في جامعة الإسكندرية فيما تقلد عبر مسيرته المهنية العديد من المناصب بقطاع الآثار من بينها مدير آثار الجيزة وحقق اكتشافات أثرية هامة مثل وادي المومياوات الذهبية ومقابر العمال بناة الأهرام ومقبرة حاكم الواحات البحرية واسرته. وسبق وان اختارته مجلة تايم الأمريكية الشهيرة ضمن قائمة أهم 100 شخصية في العالم فيما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في مصر وهو كمثقف وطني مصري تصدى بعلمه ومعارفه للأباطيل التي تحاول تزوير التاريخ مثل الزعم بأن اليهود هم الذين بنوا أهرامات الجيزة. وقد تتخذ هذه الأباطيل صورا متعددة وتتخفى وراء مقولة حرية الابداع وتقنيات الابهار كما حدث في فيلم "ملوك وآلهة" للمخرج البريطاني ريدلي سكوت الذي بلغت ميزانيته 140 مليون دولار فيما لم يجانب الصواب وزارة الثقافة المصرية عندما اتخذت قرارا بمنع عرضه في مصر نظرا لما انطوى عليه هذا الفيلم من تزوير للتاريخ المصري القديم لحساب رؤية صهيونية تتخفى وراء استار الابداع التقني وهي تسعى في الحقيقة لتزييف الحقائق التاريخية. ولزاهي حواس اسهاماته الثقافية في مسألة الهوية المصرية كما أنه أحد أهم من سعوا لحل الألغاز والطلاسم التي اكتنفت حياة الملك الشاب توت عنخ امون وملابسات وفاته المبكرة وكان قد التقى بمومياء هذا الملك واخضعها لتحاليل الحمض النووي. واذا كان من الشائع أن الأثري الانجليزي هوارد كارتر هو مكتشف مقبرة توت عنخ امون عام 1922 في وادي الملوك فان زاهي حواس يكشف في كتابه الجديد أن طفلا مصريا يدعى حسين عبد الرسول كان يبلغ من العمر 9 سنوات هو الذي دل كارتر على مدخل المقبرة. وواقع الحال أن توت عنخ امون اثار دوما اهتماما ثقافيا لدى باحثين في الغرب وخاصة فيما يتعلق بظروف وملابسات وفاته التي يقدم زاهي حواس فرضية جديدة بشأنها في كتابه الجديد الذي يشكل حقا اسهاما كبيرا في التاريخ الثقافي المصري. وملابسات الوفاة الغامضة لتوت عنخ امون تقترن تاريخيا بثورة عظيمة كما يؤكد الباحث توبى ويلكينسون في كتاب حول مصر القديمة- موضحا أن من يقرأ التاريخ المصرى القديم بتمعن لابد وان يتوقف عند ماحدث قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام بعد وفاة الملك الشاب توت عنخ آمون وتدخل جيش مصر للحفاظ على أمنها وضمان انتقال السلطة لحاكم يرضى عنه الشعب. ويتناول كتاب: "صعود واضمحلال مصر القديمة" لتوبى ويلكينسون الصراعات بين الشعب المصرى والحكام الطغاة عبر مراحل متعددة في التاريخ الفرعونى الذي انتهى بوفاة الملكة كليوباترة عام 30 قبل الميلاد وتحول مصر إلى مستعمرة رومانية ويلقى اضواء كاشفة على انماط الحكم في التاريخ المصرى ودور عوامل الجغرافيا والموقع التي جعلت مصر عرضة لهجمات ومحاولات غزو خارجية. وبملاحظة ثاقبة، يشير توبى ويلكينسون إلى أن أنظمة الحكم العادلة عززت وحدة الدولة المصرية وتلاحم شعبها فيما اقترنت انظمة الحكم الجائرة والفاسدة بالانقسامات الداخلية وتهديد المصالح الحيوية لمصر فيما ينوه باعجاب لتلك الكوكبة من ابناء طيبة التي تمكنت تحت قيادة المحرر المصرى العظيم احمس الأول وفى ظل اقسى الظروف والتحديات من تطهير مصر من الغزاة الأجانب وطرد الهكسوس وتحويل مصر إلى القوة العظمى في اقليمها بلا منازع. واذ يتطرق زاهي حواس في كتابه الجديد لشخصية "سنجم" المعلم الخاص للملك توت عنخ امون والراقد في مقبرته بصحراء اخميم فان توبى ويلكينسون يلاحظ الثنائيات الحادة في البيئة الجغرافية المصرية مابين فيضان وجفاف..ومابين ارض خصبة في الدلتا ووادى النيل وصحراء قاحلة معتبرا أن هذه المحددات الطبيعية الجغرافية ضخمت من النزعة المصرية لرؤية العالم كمعركة مستمرة بين النظام والفوضى. غير أنه من المؤسف أن الحكام الطغاة استغلوا هذه النزعة جنبا إلى جنب مع ادوات القمع المباشر لتبرير حكمهم الاستبدادى وتسلطهم على الشعب المصرى وتسويغ الجور والفساد ،واذا كان هناك من قال أنه عندما يعيد التاريخ نفسه يتحول الأمر لمهزلة فان توبى ويلكينسون يؤكد أن التاريخ في مصر يتكرر احيانا بصورة محزنة. وهاهو يقول في كتابه الجديد الصادر بالانجليزية:وزاد الطين بلة أن انظمة الحكم الاستبدادية في مصر القديمة جنحت بشدة لانهاك الشعب بالضرائب الباهظة فيما عانت الزراعة في ظل هذه الأنظمة من حالة تدهور جراء عدم اهتمام الحكام الفاسدين بضبط الرى والالتفات لنهر النيل ليواجه المصريون خطر المجاعة كما تسلط الظلم على رقابهم. ومن ثم لم يكن غريبا كما يلاحظ الباحث توبى ويلكينسون- وهو استاذ بارز في علم المصريات ودراسات الحضارة المصرية القديمة بجامعة كامبريدج وله عدة كتب هامة عن مصر القديمة- أن يتجه المصريون احيانا في ظل هذا الطغيان على الأرض إلى السماء طالبين العون والمدد وآملين في حياة جديدة بعد موتهم تعوضهم عن كل العسف والجور والويلات التي تجرعوها في الحياة الدنيا بينما داعبت الأمانى الفئة المحظوظة من الأثرياء باستمرار الرفاهية بعد الموت. ولسنوات تجاوزت ال20 عاما انهمك توبى ويليكنسون كباحث في دراسة التاريخ المصرى القديم ليخلص إلى ضرورة التمييز بين تاريخ الشعب المصرى ومحاولات بعض حكامه لتزييف وقائع التاريخ بما يخدم مصالحهم بغض النظر عن الصالح العام للمصريين ليؤكد على الفارق الجوهرى "بين عين الباحث وعين السائح". لكن الحماسة لم تُغيب الرؤية العلمية والموضوعية في هذا الكتاب فراح الباحث توبى ويلكينسون ينسج بحذق وبراعة خيوط سرد معرفى يكشف عن الآليات التي طورها الحكم الاستبدادى عبر العصور وكيف سعى بعض الحكام الطغاة لتسخير تفوق المصريين والمعيتهم في فنون البناء والعمارة لتمجيد انفسهم واختزال مصر بكل ثراء شخصيتها وسمو روحها في الذات الحاكمة أو الجالس على العرش وتكريس طغيانه. وبقلم رشيق-تتوالى صفحات كتاب "صعود واضمحلال مصر القديمة" بمعلومات شيقة وصور باذخة لمواكب المجد والحكمة والتطور المعرفى في مصر القديمة وفضائل شعبها المعطاء-ليقول الباحث توبى ويلكينسون أن المصريين لديهم مهارة فطرية في مجال التوثيق غير أنه لايغفل ملاحظة أن بعض انظمة الحكم استغلت هذه القدرة لتسجيل وتوثيق الأمور كما تراها وتريدها لا كما حدثت هذه الأمور فعلا تماما كاستغلال هذه الأنظمة للقدرات المعمارية الفذة للمصريين. واذا كان هذا الكتاب الصادر عن دار نشر "راندوم هاوس" والذي يقع في 611 صفحة جاء في سياق اهتمام واضح من توبى ويلكينسون الباحث في كلية كلير بجامعة كامبيردج البريطانية بثورة 25 يناير وسعى دؤوب لمحاولة تأصيل هذه الثورة الشعبية والحفر المعرفى للوصول إلى جذورها فان الكتاب الجديد لزاهي حواس الصادر عن "الدار المصرية اللبنانية" يأتي في إطار مايمكن وصفه "بمشروع ثقافي لعالم آثار نابغ يستهدف بمنظور وطني الدفاع عن وجه الحقيقة وحقيقة مصر الخالدة". وشأنه شأن زاهي حواس ينقب ويليكينسون بأسلوب الحفر المعرفى ليقدم في كتابه صورا جديدة وجذابة لملوك مصر القديمة وحكامها بدءا من مينا موحد القطرين والملك المقاتل تحتمس الثالث بطل معركة مجدو الذي صاغ نظرية للأمن القومى المصرى تقول أن أمن مصر يبدأ من شمال سوريا كما توقف مليا عند اخناتون صاحب رؤية التوحيد في العقيدة ثم رمسيس الثانى قائد معركة قادش بسنوات حكمه التي امتدت 67 عاما وكانت حافلة بالمدهشات والأعاجيب لحد انها الهمت الشاعر الانجليزى الشهير شيلى قصيدته التي جاءت بعنوان "اوزيماندياس". ويتناول كتاب: "صعود واضمحلال مصر القديمة" الصراعات بين الشعب المصرى والحكام الطغاة عبر مراحل متعددة في التاريخ الفرعونى الذي انتهى بوفاة الملكة كليوباترة عام 30 قبل الميلاد وتحول مصر إلى مستعمرة رومانية ويلقى اضواء كاشفة على انماط الحكم في التاريخ المصرى ودور عوامل الجغرافيا والموقع التي جعلت مصر عرضة لهجمات ومحاولات غزو خارجية. وبملاحظة ثاقبة-يشير توبى ويلكينسون إلى أن انظمة الحكم العادلة عززت وحدة الدولة المصرية وتلاحم شعبها فيما اقترنت انظمة الحكم الجائرة والفاسدة بالانقسامات الداخلية وتهديد المصالح الحيوية لمصر فيما ينوه باعجاب لتلك الكوكبة من ابناء طيبة التي تمكنت تحت قيادة المحرر المصرى العظيم احمس الأول وفى ظل اقسى الظروف والتحديات من تطهير مصر من الغزاة الأجانب وطرد الهكسوس وتحويل مصر إلى القوة العظمى في اقليمها بلا منازع. وواقع الحال أن النهب الاستعمارى في الماضي قد يضارعه في الحاضر اهدار التراث واستباحة الآثار كما يتجلى في عديد من الممارسات اليومية التي تكشف بحق عن الحاجة الماسة لثقافة الوعى بأهمية التراث والتي يعد زاهي حواس من فرسانها النبلاء. وبعيدا عن الوقوع في فخ الغلو في تمجيد الذات القومية أو مايسمى "بالمشاعر الشوفينية" فان الكتاب الجديد للدكتور زاهي حواس عن توت عنخ امون يقدم للعالم امثولة ثقافية مصرية في البحث واستجلاء اوجه العظمة في تاريخ مصر الخالدة والتي سبق وان تناول اديب مصر النوبلي نجيب محفوظ طرفا منها في بداية مسيرته الروائية. وعندما أعلنت الأكاديمية السويدية حيثيات منح جائزة نوبل في الآداب عام 1988 للأديب المصرى نجيب محفوظ فانها اعادت للأذهان أن بواكير أعمال نجيب محفوظ تركزت في البيئة الفرعونية لمصر القديمة. كما لايجوز أن يعمد البعض للتعتيم على مقصد رئيس للدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عندما دعا لانتماء مصر للثقافة الغربية فالواقع أنه كان يقصد انتماء مصر لذاتها الحضارية وهو مايتبدى بوضوح في تأكيده على أن "الحضارة المصرية القديمة تشكل جذور هذه الحضارة الغربية" أو بشيء من التصرف فان الحضارة المصرية القديمة تشكل جذرا رئيسا للحداثة التي تقود العالم اليوم. وهاهي كيرتي مينون غاندي حفيدة المهاتما غاندي التي تعيش بجنوب أفريقيا قد تحدثت في افتتاح مهرجان "الهند على ضفاف النيل" عن الحضارة المصرية القديمة "التي اهدت العالم اجمع الحلم والسعادة والثقافة". وسيذكر التاريخ الثقافي المصري لزاهي حواس أنه بذل جهودا كبيرة للحفاظ على آثار مصر وتحرك بقوة لاستعادة الآثار المنهوبة والمهربة للخارج فيما ابدى قلقا كبيرا على الثروة الأثرية المصرية في ظل الانفلات الأمني عقب ثورة 25 يناير 2011. وهاهو زاهي حواس يحذر الآن من المخاطر التي تشكلها جماعة ظلامية مثل "داعش" على الآثار والتراث الثقافي العربي داعيا للحفاظ على اعز مانملك وهو تراثنا واثارنا فيما كان قد طالب "بوجود قوة عربية مسلحة للحفاظ على المناطق الأثرية المهددةبالدمار وتجريم المساس بآثار الدول التي تعاني من الصراعات المسلحة". وبضمير المثقف الوطني وعالم الآثارقال زاهي حواس:"نعم داعش تذبح وتحرق البشر لكنها أيضا تغتال تاريخنا وتحرمنا من الماضي وتمحو ذاكرتنا وعلينا المواجهة بشجاعة". ورغم غيوم مسدلة احيانا فوق نوافذ الحقيقة وشهقات وجل ورجفة قلق وشبق شائعات ودعاية سوداء تعربد هنا أو تتمادى هناك فان "عين حورس" يقظى على متسع الأفق ولن يفرط المصريون في تاريخهم ابدا..فتحية لزاهي حواس..تحية لمثقف وطني مصري هو في الحقيقة ابن مصر الخالدة التي علمت الدنيا التوحيد والعدل والاحسان ووهبت الإنسان عصارة الحكمة من شجر الأيام.