هذا الكتاب تحول في فترة وجيزة إلي ما يسمونه الكتاب العمدة في تفسير صعود وانهيار الحضارة الفرعونية بعد صدور الطبعة الشعبية منه قبل شهور قليلة, فيما لم يعرف المصريون عنه شيئا تقريبا! ووضع المؤلف توبي ويلكينسون نفسه في مكانة مجاورة للأعمال الكبري عن الحضارة المصرية القديمة مثل كتاب تاريخ مصر لجيمس هنري بريستيد والذي صدر قبل أكثر من مائة عام.. وكلما تراكمت المعلومات من خلال الإكتشافات الأثرية الجديدة, ازداد عمق الكتابات عن حضارة الفراعنة التي غربت عنها الشمس إلا أنها مازالت تعلم العالم ويسعي المولعون بعلم المصريات لمعرفة أسباب السقوط.. ويضع المؤلف رصدا دقيقا للأسر الفرعونية الحاكمة للدولة المركزية الأولي في التاريخ- علي يد الملك مينا موحد القطرين عام0592 قبل الميلاد- من الدولة القديمة التي شهدت بناء الأهرامات ثم الدولة المملكة الوسطي التي شهدت إصلاحات سياسية كبيرة بعد انهيار الدولة الأولي وأخيرا الدولة المملكة الحديثة التي قامت علي أنقاض الانهيار الثاني للدولة المركزية وغزو أجنبي علي يد قبائل الهكسوس من الشرق الأدني ثم بدء عصر التوسع الإمبراطوري وظهور شخصيات رفيعة الشأن في التاريخ القديم أشهرهم الملك توت عنخ أمون والملكة حتشبسوت ورمسيس الثاني.. ويرسم ويلكينسون صورة أكثر دقة عن الحياة اليومية للمصريين القدماء ومنها الإضرابات العمالية ومعسكرات العمل وحتي عمليات نهب المقابر الملكية في نهاية عصر المملكة الحديثة بعد العثور علي وثائق مدهشة عن التحقيقات الرسمية لعلميات السرقة والقبض علي مرتكبيها وإعدام اللصوص. ووفقا لكثير من الكتابات عن تلك النوعية من الدراسات, مازالت التفسيرات عن انحدار وسقوط الحضارة المصرية القديمة غير كافية لتفسير ما حدث, وهل السقوط لأسباب مناخية وغضب الطبيعة في صورة فيضانات مدمرة أم بسبب الغزو الأجنبي.. وهناك أصوات تري أن مفهوم الدولة القومية لم تظهر في مصر بالصورة التي يرددها البعض اليوم بسبب وجود تنوع ثقافي واختلافات ربما تكون قد أسهمت في العثرات التي أطاحت بالحضارة القديمة! كما يشير ويلكنسون إلي الطابع الديكتاتوري للأنظمة التي حكمت مصر القديمة حيث القوة هي التي كانت تحكم في كل الأحوال..كما يدور جدل بين ما خلص إليه ويلكينسون وبريستيد من أن انهيار الحضارة القديمة قد حدث أثر الغزو الفارسي لمصر في عام525 قبل الميلاد حيث يري البعض أن تلك الفترة كانت فترة مهمة في الحضارة الفرعونية والتي نعرفها اليوم بحقبة صان الحجر في دلتا مصر والتي امتدت ما بين عامي526 و525 قبل الميلاد..وهي تلك الفترة شهدت وصول التجار والجنود اليونانيين إلي مصر للمرة الأولي وبدء تداول العملات وحسب المؤرخ القديم هيرودوت بداية رحلات الاستكشاف حول إفريقيا ثم حتي033 قبل الميلاد شهدت مصر والعالم ثورة في التجارة ومشروعات كبيرة وتقدما في الطب والفلسفة وأول عهد مع العولمة والتي جاءت معها بالقلق الاجتماعي والحروب المستمرة حتي وضع الجنود الرومان أقدامهم في مصر. وبعد نهاية حكم الملكة العظيمة كليوباترا لم تنته الحضارة المصرية القديمة حيث هناك تفسير أن مصر التي احتضنت المسيحية ثم الإسلام في مرحلة لاحقة لم تصبح مركزا للإمبراطوريات بعد كليوباترا حتي ظهور الدولة الفاطمية في القرن العاشر الميلادي عندما صارت مصر منارة الثقافة الإسلامية ببناء الأزهر الشريف- حسب جوزيف مانينج صاحب كتاب آخر الفراعنة. وقد صدق ويلكينسون في مقدمة الكتاب بقوله من الصعب جدا أن تبحر في ثقافة بعيدا عنك في الزمان والمكان حيث الغموض يلف نشأة وإزدهار واضمحلال الحضارة المصرية لكنها مازالت محط إهتمام الباحثين وعمليات التراكم في كتابة التاريخ مستمرة من الحفريات والإكتشافات الجديدة. وتبهر سطور ويلكينسون المولعين بالحضارة الفرعونية عندما يقول إن عملية بناء الأهرامات كانت إعجازا ليس فقط لروعة البناء ولكن لغرابة السباق مع الزمن حيث استوجب علي العمال المصريين رفع كتلة حجرية جديدة من أحجار هرم خوفو إلي موضعها كل دقيقتين فيأثناء فترة العمل التي تبلغ01 ساعات يوميا بينما تواصل العمل في الهرم عامين متتاليين بلا انقطاع أو توقف وحديثه عن إعادة الملك إخناتون صياغة المعتقد الديني في مصر القديمة وما تركه من أثر في المعتقدات الدينية التالية وهو الفرعون المتمرد الذي حكم ما بين عامي3531 و6331 قبل الميلاد. عبر الكتاب, يشير المؤلف إلي أن مصر القديمة تقدم النموذج علي الحاكم والرعية اعتمادا علي علاقة من الإذعان والخوف والتي صارت تمثل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في معظم بقاع الأرض علي امتداد التاريخ حيث أبدع الحكام في استغلال التصوير والجداريات لتأكيد سلطاتهم وإستخدام أقنعة الحيوانات لنشر فكرة الحاكم الإله وقدرته علي ضرب الأعداء بقوة وحسم علي مدي تاريخ الأسرات الثلاثين. ويشير ويلكينسون- رغم الاختلافات الكثيرة مع ما توصل إليه من أحكام- إلي أن الحضارة المصرية القديمة قد ضربها الوهن بسبب عوامل كامنة منها الاستغلال المستمر للموارد الطبيعية والتوظيف القصري للعمالة البشرية وتراجع مكانة الحفاظ علي أرواح البشر وأن العوامل السابقة ربما تجمعت مع تأثير الغزو الأجنبي من أجل أن تكون المحصلة ضعفا عاما في جسد الحضارة الخالدة رغم أن الدولة الفرعونية بمراحلها الثلاث إستمرت أكثر من ثلاثة آلاف عام. ومن المواقف المدهشة في الكتاب ما أورده ويلكينسون من استدعاء للجيش المصري لتسلم السلطة علي طريقة المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة52 يناير علي نظام مبارك في أعقاب رحيل الملك الصغير توت عنخ آمون حيث شهدت مصر عملية انتقال للسلطة من نظام إلي آخر عندما لم يكن هناك وريث واضح للحاكم السابق وعندها- وتحت تأثير الخوف علي الاستقرار وحفظ النظام والقانون وخشية التدخل الأجنبي في شئون البلاد- قام الجيش الفرعوني بملء فراغ السلطة مؤقتا وأشرف علي عملية نقل السلطة قبل ثلاثة آلاف سنة! وربما ما قاله ويلكينسون في سياق تلك الحادثة يعطي ملمحا عن مكانة الجيش في المجتمع المصري التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ التليد وتركت أثرا عميقا في العلاقة بين القوة العسكرية والمجتمع في العالم القديم والمعاصر وأن ما يحدث اليوم ليس وليد المصادفة ولكنه موروث من الثقة في الجندي المصري من أبناء شعبه لم يذهب رغم تراجع حضارته العظيمة وانهيار دولته القديمة التي علمت العالم أشياء لا تحصي! الكتابات عن الحضارة المصرية مازالت تقدم الجديدة كل يوم ولم تحسم بعد أسئلة شائكة من نوعية كيف شيد المصريون حضارتهم وكيف هوت تلك الحضارة وغربت وتركت وراءها روائع في المعمار والفن والطب والهندسة والصيدلة وغيرها...