جاء الكتاب الصادر عن دار نشر "راندوم هاوس" والذى يقع فى 611 صفحة، فى سياق اهتمام واضح من توبى ويلكينسون الباحث فى كلية كلير بجامعة كامبيردج البريطانية بثورة 25 يناير. وهو ما يعبر عن سعى دءوب لمحاولة تأصيل هذه الثورة الشعبية والحفر المعرفى للوصول الى جذورها بعد أن تمكنت من اسقاط نظام استبدادى فاسد جثم على صدور المصريين لنحو ثلاثة عقود. وسط حفاوة من جانب صحف عالمية مثل صحيفة نيويورك تايمز بهذا الكتاب وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد أفسحت صفحاتها مؤخرا لمقالة كتبها توبى ويلكينسون مؤلف الكتاب الجديد طرح فيها رؤيته حول الجذور التاريخية للثورة الشعبية المصرية وهى أن هذه الثورة استمرار لتقاليد ثورية مصرية عريقة فى التصدى للطغاة بسبل متعددة. وقال توبى ويلكينسون إن من يقرأ التاريخ المصرى القديم بتمعن لابد وأن يتوقف عند ماحدث قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام بعد وفاة الملك الشاب توت عنخ آمون وتدخل جيش مصر للحفاظ على أمنها وضمان انتقال السلطة لحاكم يرضى عنه الشعب. وينقب ويلكينسون بأسلوب الحفر المعرفى ليقدم فى كتابه صورا جديدة وجذابة لملوك مصرالقديمة وحكامها،بدءا من مينا موحد القطرين والملك المقاتل تحتمس الثالث بطل معركة مجدو الذى صاغ نظرية للأمن القومى المصرى تقول أن أمن مصر يبدأ من شمال سوريا كما توقف مليا عند اخناتون صاحب رؤية التوحيد فى العقيدة ثم رمسيس الثانى قائد معركة قادش بسنوات حكمه التى امتدت 67 عاما وكانت حافلة بالمدهشات والأعاجيب لحد أنها ألهمت الشاعر الانجليزى الشهير شيلى قصيدته التى جاءت بعنوان "أوزيماندياس". ويتناول الكتاب الجديد: "صعود واضمحلال مصر القديمة" الصراعات بين الشعب المصرى والحكام الطغاة عبر مراحل متعددة فى التاريخ الفرعونى الذى انتهى بوفاة الملكة كليوباترة عام 30 قبل الميلاد وتحول مصر إلى مستعمرة رومانية ويلقى أضواء كاشفة على أنماط الحكم فى التاريخ المصرى ودور عوامل الجغرافيا والموقع التى جعلت مصر عرضة لهجمات ومحاولات غزو خارجية. وبملاحظة ثاقبة-يشير توبى ويلكينسون إلى أن أنظمة الحكم العادلة عززت وحدة الدولة المصرية وتلاحم شعبها فيما اقترنت أنظمة الحكم الجائرة والفاسدة بالانقسامات الداخلية وتهديد المصالح الحيوية لمصر فيما ينوه بإعجاب لتلك الكوكبة من أبناء طيبة التى تمكنت تحت قيادة المحرر المصرى العظيم أحمس الأول وفى ظل أقسى الظروف والتحديات من تطهير مصر من الغزاة الأجانب وطرد الهكسوس وتحويل مصر إلى القوة العظمى فى إقليمها بلا منازع. ويعرض هذا الكتاب لآليات القيادة التى كان ملوك وحكام مصر الأوائل أول من ابتكروها وطوروها وتضمنت جوانب التعبئة الروحية والحشد المعنوى لتوحيد السكان وتحقيق التماسك للدولة المصرية التى يرتبط بها شعبها فيما اعتمد الباحث توبى ويلكينسون على مخزون معرفى هائل أتاح له حتى أن يتحدث عن أحوال جنود المشاه فى جيش مصر القديمة ضمن صور الحياة اليومية للمصريين. ويلاحظ توبى ويلكينسون الثنائيات الحادة فى البيئة الجغرافية المصرية مابين فيضان وجفاف..ومابين أرض خصبة فى الدلتا ووادى النيل وصحراء قاحلة معتبرا أن هذه المحددات الطبيعية الجغرافية ضخمت من النزعة المصرية لرؤية العالم كمعركة مستمرة بين النظام والفوضى غير أنه من المؤسف أن الحكام الطغاة استغلوا هذه النزعة جنبا إلى جنب مع أدوات القمع المباشر لتبرير حكمهم الاستبدادى وتسلطهم على الشعب المصرى وتسويغ الجور والفساد ويتضمن الكتاب معلومات غزيرة ويعرض حتى لملوك وحكام لم يحظوا بشهرة فى التاريخ المصرى القديم كما يتطرق لمعارك عديدة بعضها مجهول لأغلب القراء العاديين أو غير المتخصصين غير أنه يسهل للقارىء أن يلاحظ أن المؤلف توبى ويلكينسون كان يكتب بحماسة وتدفق معرفى على ايقاع ثورة 25 يناير الشعبية المصرية . ومن المثير للدهشة أن يتناول هذا الكتاب حتى الأحوال الصحية للمصريين القدماء وأن يلاحظ المؤلف-وكأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه أحيانا- أنه فى فترات تصاعد الجور والعسف للنظام الحاكم لم يكن بمقدور رجل الشارع فى مصر الفرعونية أن يذهب للطبيب وأن يتلقى الخدمات الصحية لأنه لايقوى على تحمل تكاليفها خلافا للأغنياء وفيما زادت الفجوة الهائلة بين الفقراء والأغنياء عانى أغلب المصريين من أمراض مهلكة مثل السل ناهيك عن العدوى الطفيلية الموهنة. واذا كان هناك من قال إنه عندما يعيد التاريخ نفسه يتحول الأمر لمهزلة فان توبى ويلكينسون يؤكد أن التاريخ فى مصر يتكرر أحيانا بصورة محزنة وهاهو يقول فى كتابه الجديد :وزاد الطين بلة أن أنظمة الحكم الاستبدادية فى مصر القديمة جنحت بشدة لانهاك الشعب بالضرائب الباهظة فيما عانت الزراعة فى ظل هذه الأنظمة من حالة تدهور جراء عدم اهتمام الحكام الفاسدين بضبط الرى والالتفات لنهر النيل ليواجه المصريون خطر المجاعة كما تسلط الظلم على رقابهم. ومن ثم لم يكن غريبا كما يلاحظ الباحث توبى ويلكينسون أن يتجه المصريون أحيانا فى ظل هذا الطغيان على الأرض الى السماء طالبين العون والمدد وآملين فى حياة جديدة بعد موتهم تعوضهم عن كل العسف والجور والويلات التى تجرعوها فى الحياة الدنيا بينما داعبت الأمانى الفئة المحظوظة من الأثرياء باستمرار الرفاهية بعد الموت. ولسنوات تجاوزت ال20 عاما انهمك توبى ويلكينسون كباحث فى دراسة التاريخ المصرى القديم ليخلص الى ضرورة التمييز بين تاريخ الشعب المصرى ومحاولات بعض حكامه لتزييف وقائع التاريخ بما يخدم مصالحهم بغض النظر عن الصالح العام للمصريين ليؤكد على الفارق الجوهرى "بين عين الباحث وعين السائح". وبمزيج من الإعجاب والقلق والانفعالات المتعددة- بدا أن مؤلف الكتاب يتابع تطورات ثورة 25 يناير وتداعياتها المستمرة بعد أن انبهر بانفجارها العفوى ونجاحها فى تغيير النظام لتدخل مصر فى مرحلة انتقالية استعدادا لتأسيس نظام سياسى جديد يعبر عن طموحات الثوار ويحقق أهداف ثورتهم الشعبية. لكن الحماسة لم تغيب الرؤية العلمية والموضوعية فى هذا الكتاب فراح الباحث توبى ويلكينسون ينسج بحذق وبراعة خيوط سرد معرفى يكشف عن الآليات التى طورها الحكم الاستبدادى عبر العصور وكيف سعى بعض الحكام الطغاة لتسخير تفوق المصريين والمعيتهم فى فنون البناء والعمارة لتمجيد أنفسهم واختزال مصر بكل ثراء شخصيتها وسمو روحها فى الذات الحاكمة أو الجالس على العرش وتكريس طغيانه. وبقلم رشيق-تتوالى صفحات كتاب "صعود واضمحلال مصر القديمة" بمعلومات شيقة وصور باذخة لمواكب المجد والحكمة والتطور المعرفى فى مصر القديمة وفضائل شعبها المعطاء. وعمد الباحث توبى ويلكينسون لاستخدام الأسلوب التفكيكى لكتابات ونقوش مصرية قديمة ليقول إن المصريين لديهم مهارة فطرية فى مجال التوثيق غير أنه لايغفل ملاحظة أن بعض انظمة الحكم استغلت هذه القدرة لتسجيل وتوثيق الأمور كما تراها وتريدها لا كما حدثت هذه الأمور فعلا تماما كاستغلال هذه الأنظمة للقدرات المعمارية الفذة للمصريين. وإذا كان توبى ويلكينسون كباحث يهتم "بالمسكوت عنه" فى التاريخ فإن هذا الاهتمام تجلى فى سعيه الدؤوب عبر صفحات هذا الكتاب الجديد فى البحث عما وراء الأشياء الظاهرة وتفكيك الأنظمة الفرعية للنظام السياسى ومحاولة استنطاق التاريخ للتوصل لحقائق جديدة قد تخالف السائد والمستقر فى مدركات أغلب البشر. وبعيدا عن الوقوع فى فخ الغلو فى تمجيد الذات القومية أو مايسمى "بالمشاعر الشوفينية" فإن هذا الكتاب يبدو فاتحة لسلسلة من الكتب وفيض من الكتابات الأكاديمية والدراسات المتعمقة فى الغرب عن مصر والمصريين بعد ثورة 25 يناير التى يتابع العالم باهتمام واضح تداعياتها..كأن العالم يعيد اكتشاف النصوص المصرية القديمة وابداع الأولين ليقف على حقيقة مافعله الأحفاد ويفهم المغزى العميق للثورة الشعبية المصرية كقصيدة حرية مفتوحة على افقها الكونى وكميزان عدالة يعيد للتاريخ جلاله وللحاضر بهائه..ثورة للمستقبل رفعت ماذبل عن وجه التاريخ للارتقاء به إلى معمار جديد..هذا قدر مصر وهذا مجدها.