فيما وصفه خبراء القانون الدولى بمحاولة للالتفاف على الجهود الفلسطينية لاصطياد مجرمى الحرب الإسرائيليين، وتقديمهم للجنائية الدولية، تسعى إسرائيل عبر تحقيقات داخلية تجريها مع قادة وضباط الجيش الإسرائيلى أثناء الحرب على غزة، العام الماضي، وتظهر لهذه التحقيقات أبعاد كثيرة، أولها أنها رسالة للمجتمع الدولى عن ديمقراطية إسرائيل. وثانيها -وذلك هو الأهم- أنها تعد محاولة لحماية الجنود والقادة الإسرائيليين من المحكمة الجنائية الدولية ومحاولة التحايل على القانون الدولى الذي يسقط اختصاص الجنائية الدولية، إذا أجرت الدولة المتهمة تحقيقات داخلية، ونفذت أحكاما بالفعل. وبحسب الخبراء، فإن الخطة الإسرائيلية اتخذت حيز التطبيق، بعد أن انضمت فلسطين رسميا إلى ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وهو الذي يتيح للقيادات الفلسطينية طلب محاكمة قيادات الاحتلال في المحكمة الجنائية الدولية، وبالفعل جهزت السلطة الفلسطينية ملفات جرائم الحرب، والجرائم مرفقة بالمستندات والأدلة والوثائق التي تؤكد اقتراف دولة الاحتلال لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وتوجهت بها إلى لاهاي، فميثاق روما يعد معاهدة دولية تلزم جميع الدول الأطراف، ولكن العائق الوحيد حتى الآن هو رفض «إسرائيل» الانضمام إلى المعاهدة الدولية المنشئة لهذه المحكمة، وهو ما لا يجعل للمحكمة ولاية قضائية على إسرائيل، تطبيقا لمبدأ «الأثر النسبى للمعاهدات الدولية». وهو ما جعل فرحة الفلسطينيين غير مكتملة، ويشير إلى وجود طريق طويل يجب أن يقطعه الفلسطينيون قبل أن يصلوا للعدالة الدولية. إضافة إلى أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية سيسقط إذا قامت الدولة المعنية بالتحقيقات والمحاكمات داخلها، وهو ما بدأت إسرائيل في تنفيذه خلال الأيام الأخيرة. على هذه الأزمة علق الدكتور صلاح عبد العاطى، المحامى والخبير القانونى والناشط الحقوقى الفلسطينى، قائلا: إن هذا المبدأ صحيح، ولكن يمكن تقييده بعدد من الاستثناءت لتنفيذ العدالة الجنائية الدولية، وحتى لا يفلت مرتكبو الجرائم البشعة من العقاب الدولي، ما يؤدى إلى ضرورة محاكمة مجرمى الحرب الإسرائيلين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذلك استنادا إلى أن اختصاص القضاء الجنائى الدولى هو اختصاص مكمل لاختصاص القضاء الوطني، وأضاف عبد العاطي، أن القانون الدولى الإنسانى يلزم دولة «إسرائيل» باتخاذ ما يلزم من إجراءات تشريعية وقضائية وتنفيذية لضمان المعاقبة على جرائم الحرب، وذلك وفقا لنص المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة الملزمة لإسرائيل باعتبارها طرفا في هذه الاتفاقية، وباعتبارها سلطة احتلال، وهو ما لم تنفذه إسرائيل. ومن المفترض أن يكون القضاء الدولى قضاء مكملًا للاختصاص القضائي الوطني، في حال كان النظام القضائى الوطنى فاعلا ونزيها وذا مصداقية، ويلتزم بالمعايير الدولية، وهو ما يعطى فرصة لفلسطين أن تقوم المحكمة الدولية بمهامها في حالتين، الأولى عند انهيار النظام القضائى، والثانية عند رفضه أو فشله في القيام بالتزاماتها القانونية بالتحقيق ومحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم، وهو ما ثبت لدينا من قبل المنظمات الحقوقية الفلسطينية والدولية، وهو ما يعنى أن إسرائيل كانت تتغاضى عن محاكمتهم مما يجعل دور المحكمة الجنائية الدولية أمرا واجب التنفيذ يصبح اختصاصا إلزاميا، وذلك لأن الدول غير الأطراف فيها ومن بينها دولة «إسرائيل» يمكن أن تلتزم بأحكام هذا النظام قسرا في هاتين الحالتين. فبعد إعلان انضمام فلسطين الرسمى للمحكمة الجنائية الدولية انتابت حالة من الصمت والصدمة إسرائيل قبل أن يخرج عدد من المسئولين الإسرائيلين لينددوا بالقرار، وصدر بيان من الخارجية الإسرائيلية يدين القرار ويصفه بأنه «سياسي ووقح». واعتبر البيان أن حكومة السلطة الفلسطينية المتعاونة مع حركة حماس هي آخر طرف يمكنه التهديد بملاحقات قضائية أمام محكمة لاهاى الدولية. وبحسب البيان، فإنه لا يحق للفلسطينيين الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وأنه لا يوجد لهذه المحكمة أي صلاحية في هذه الحالة، بسبب عدم قيام دولة فلسطينية حسب القانون الدولي، وأضافت الخارجية الإسرائيلية، أن قبول الطلب الفلسطينى يعنى تسييس المحكمة الدولية والمس بمكانتها، فالنوايا الفلسطينية المتمثلة بالتقدم بطلب القيام بإجراءات ضد إسرائيل تتناقض مع الأهداف الأساسية التي أقيمت من أجلها المحكمة الدولية، وهو ما يجعل إسرائيل تعتبرها خطوات فلسطينية أحادية الجانب، وهو خرق للأسس التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين بدعم من المجتمع الدولى لحل الصراع الإسرائيلى الفلسطيني. وفى إطار ردها لاحتواء الخطوة الفلسطينية، عقدت إسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية محاكمات داخلها لمعاقبة القادة والضباط والجنود الذين اقترفوا جرائم حرب في غزة الصيف الماضي، وهى خطوة إسرائيلية للهروب من فكرة خضوعها للجنائية الدولية، وإسقاط اختصاصها بمحاكمة القادة الإسرائيليين، حيث تجرى التحقيقات داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على مستويين، أولهما التحقيق عبر لجان «تحقيق خاصة» تختص بحالات معنية، مثل أسباب فشل عملية عسكرية محددة أو أية قضية داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وثانيها هو التحقيق من قبل الشرطة العسكرية، وهى المعنية بالتحقيق مع الجنود والضباط حول مخالفات جنائية عادية، مثل السرقات أو تعاطى المخدرات أو الهروب من الخدمة وغيرها، والتحقيق في شكاوى الفلسطينيين أو المدنيين المتعلقة بتصرفات الجنود والضباط، خاصة في الأراضى المحتلة، على أن يتم استلام شكاوى الفلسطينيين عن طريق منظمات حقوقية إسرائيلية، مثل منظمات «بتسيلم، عدالة، يش دين، يش غفول» وغيرها، ثم يتم فحص الشكاوى من قبل لجنة تحقيق ميدانى يرأسها قائد الموقع، ثم ترفع نتائجها إلى قائد المنطقة الذي يقرر مدى الحاجة لتحويل القضية إلى الشرطة العسكرية أم لا. والنتائج تؤكد أن أغلبية القضايا التي بحوزة المنظمات الحقوقية تم إغلاقها من لجنة التحقيق الميداني، ولا تصل مطلقا للشرطة العسكرية، ما يجعل تنفيذ الأحكام من المستحيلات، ويجعل في الوقت نفسه هروب إسرائيل من العقاب أمرا واقعا. النسخة الورقية