برحيل مجدي عبدالملاك ميخائيل يوم السبت الماضي، يبدو مصير مقهى ريش، وهو أحد أشهر مقاهي القاهرة وأقدمها، في مهب الريح. فالمعروف هو أن مجدي عبد الملاك ميخائيل، وهو طيار سابق، كان يمثل مالكي هذا المقهى باريسي الطابع والذي لا نبالغ إذا قلنا إن له شهرة عالمية، بفضل عراقته الممتدة منذ تأسيسه عام 1908، بالإضافة إلى أنه كان ولا يزال ملتقى للمثقفين، من مصر وغيرها من بلدان العالم حتى بعد أن أصبح أقرب إلى مطعم سياحي في السنوات الأخيرة. ولا يخفى أن مقهى "ريش" ظل مغلقا لأسباب غامضة لسنوات عديدة، قبل أن يستأنف نشاطه منذ نحو 15 عاما بإدارة مجدي عبد الملاك الذي مارس سياسة انتقاء زبائنه، لاتقاء "مشاغبات" بعضهم والتي قيل إنها كانت وراء إغلاقه من قبل. ومن هنا تباينت ردود أفعال المثقفين على خبر رحيل صاحب مقهى ريش، الذي كان ذات يوم مكانا مفضلا للقاء صاحب نوبل نجيب محفوظ مع مثقفين من أجيال مختلفة، وهو ما تناوله محفوظ في روايته "الكرنك" والتي تحولت في السبعينيات إلى فيلم يحمل الاسم نفسه. وفي هذا الصدد كتب الشاعر والروائي صبحي موسى على صفحته على الفيس بوك إن الشاعرة والروائية الأمارتية التي تقيم في مصر ميسون صقر كانت من أكثر الذين انتبهوا إلى قيمة مقهى ريش الثقافي، ومن ثم قررت أن تحافظ على تراث ريش عبر تدشين موقع ثقافي كبير على النت باسم مقهى ريش، وبذلت جهدا كبيرا في جمع وثائق ريش ورصد تاريخه وتصوير مقتنياته، وبذلت جهداً في تصنيف آلاف الأوراق الخاصة بالمقهى وتاريخه وما كتب عنه، وما اجتمع لدى مجدي عبد الملاك من صور لنجوم الثقافة والفن على مدار تاريخ المقهى منذ بداية القرن العشرين حتى وقتنا الراهن. وأضاف أن ميسون صقر كانت قد اقترحت على مجدي عبد الملاك الفكرة، وهو تحمس لها وأتاح لها تصوير كل ما لديه من وثائق وصور، وكان من المفترض أنها ستقوم بتدشين الموقع وسط احتفال يليق بريش وتاريخه وأهميته، لكن فيما يبدو أن مرض مجدي عبد الملاك هو الذي تسبب في تأخير هذا الأمر. وأضاف الشاعر والروائي صبحي موسى: في هذه اللحظة أجدني أنعي مع الكثيرين رحيل ذلك العقيد طيار الذي قرر أن يكون حارسا على واحد من أهم معالم القاهرة الثقافية، قرر أن يجدد المقهى ويفتحه للجمهور في الوقت الذي كان الإخوان طامعون في شرائه وتحويله إلى مكان خال من الكحول كما فعلوا في جروبي وغيره. وقال موسى: في هذا الوقت أجدني أطالب الجميع بغفران جهامة مجدي عبد الملاك التي تعامل بها معنا، لأنها جهامة لم تكن تحمل عنصرية أو طبقية بقدر ما هي ملامح رجل عسكري متخوف من دخول من يمكنهم أن يتهجموا على رواد المكان، الأمر الثاني أجدني الآن أحيي الشاعرة والروائية ميسون صقر على اهتمامها بما لم نهتم به نحن، وجهدها في عمل شيء حقيقي وكبير ومهم عن هذا المركز الثقافي التاريخي القائم في وسط القاهرة، وأجدني أطالب الجميع بأن يلتف الآن حول المقهى وتاريخه وأهميته، وأن يدافعوا عنه بعدما رحل الرجل الذي ظل يدافع عنه منذ مطلع التسعينات وحتى الآن، أجدني أطالب بما سعى مجدي ميخائيل نفسه إلى عمله وهو ضم مقهى رييش إلى الآثار، وأن يتم تحويل المقهى إلى مركز ثقافي بنفس الشروط القائم عليها الآن، وهي الأمنيات التي سعى إليها الرجل لكن لم يستجب إليه أحد. وبحسب موسوعة ويكيبيديا فإن مقهى ريش الواقع قرب ميدان طلعت حرب تأسس عام 1908 على أنقاض قصر لمحمد علي، وكان أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية. شيد مقهى ريش شخص ألماني، باعه عام 1914 إلى هنري بيير؛ أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم "ريش" ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن، وتسمى "كافيه ريش". وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى اشتراه تاجر يوناني مشهور من صاحبه الفرنسي، ووسعه، ويعتبر والد مجدي ميخائيل، هو أول مالك مصري له. وكان المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، والمثال كامل جاويش والرسام أحمد طوغان والمحامي الأديب عباس الأسواني وشاعر النيل حافظ إبراهيم وكامل الشناوي ومحمد عوده وكامل زهيري ومحمود السعدني وعبدالرحمن الخميسي وزكريا الحجاوي وأيضا كثير من اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين. ووفق عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي 1914-1921) فإن ريش ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى، كما عرف مقرا يجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدثون بشئونها أو شؤون البلاد العامة.. كما كان معقلا لمختلف الطلائع السياسية المتحرره من التعصب الحزبي يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون لكنهم غالبا ما يتفقون علي موقف واحد في مواجهه الملمات الكبرى التي تحتاج الي الاحتشاد والوحدة الوطنية، ومعظم البيانات الوطنية كانت خارجة من هذا المكان. فقد كان ريش بحسب الرافعي، متنفسا لكل الطبقات والأنواع من الناس علي اختلاف نزاعتهم وقد ظل البوليس السياسي يقصد المكان ويملأه بجواسيسه ورجال المخابرات والصحفيين الأجانب كل يفتش عن مآربه الخاصة وقياس الاخبار ومواكبه النبض المصري. وكان للمقهى دور كبير في ثورة عام 1919، بل يرى كثيرون أن صاحب المقهى في هذه الآونة كان عضوا في أحد أهم التنظيمات السرية، حيث وجدت بعد 80 عاما من ثورة 1919 آلة لطبع المنشورات وذلك عقب حدوث شرخ في أحد جدران المقهى عقب زلزال 1992 واكتشف سرداب سري وبه منشورات وآلات طباعة يدوية أثناء عمليات الترميم. جدير بالذكر، أن صاحب المقهي آن ذاك تقدم بتصريح لحفلات موسيقية كلاسيكية ولكن الانجليز رفضوا متحججين ان الاوركسترا سوف تقلق السكان، فما كان إلا أن جمع توقيعات السكان وتم الرفض واضطر صاحب المقهي وضع السلطات امام الامر الواقع وتعالت اصوات الاوركسترا التي كانت تغطي على أصوات آلات الطباعة السرية. وفي عام 1972 انطلقت منه ثورة الأدباء، احتجاجا على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، كما أنه في ديسمبر عام 1919 شهد محاولة اغتيال رئيس الوزراء وقتها يوسف وهبة. وكان المطرب والملحن الشيخ أبو العلا محمد يغني ذات مساء مصطحبا تلميذته أم كلثوم وكانت لا تزال طفلة ترتدي العقال والملابس العربية تعاقد المقهى معهما على اقامة حفلات غنائية منتظمة حسبما أكدته صحيفة "المقطم" في عددها الصادر في 30 مايو 1923.