إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم دفع الكثير من الكتاب والأدباء أثمانا غالية لمواقفهم المضادة للسُلطة، فقضى أغلبهم أياما طويلة خلف القبضان مع الآت القمع والتعذيب، وتحت رحمة القائمين عليها، ويحكي من خرجوا دائماً العديد من الحكايات التي يراها البعض مُبالغاً فيها، وأنها لا يُمكن أن تحدث. أما الأديب المُعتقل، فيتمتع بالقدرة على تسجيل هذه اللحظات كما يراها، فيسرد الأحداث لينقل القارئ معه إلى الغرف الضيقة المُعتمة التي قبع فيها، ويجعله يرى ما يحدث من القائمين على السجن، ناقلاً مشاعره وروح الحياة التي يصنعها السجناء داخل المكان. "البوابة نيوز" اختارت مجموعة من الأعمال الأدبية التي كتبها أصحابها وهم في أقبية السجون. مصطفى أمين.. سنة أولى سجن كان كتاب مؤسس أخبار اليوم، والصحفى المُقرب لفترة طويلة من دوائر الحكم مصطفى أمين "سنة أولى سجن"، والذي حكى فيه عن فترة السجن بمتهمة التجسس لصالح وكالة المخابرات المركزية إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومدير مخابراته الأشهر صلاح نصر، نافذة فتحها أمين على عالم السجن. حكى أمين عن تعرضه للتعذيب في السجن عن طريق منعه من الكتابة، ثم منعه من دخول الأقلام عليه، ووصل اضطهاده لدرجة أن العقيد المسئول عن السجن أمر بمنع دخول ورق التواليت إلى أمين حتى لا يكتب عليه، ورغم لك كان مسجونًا نموذجياً يُطيع الأوامر مهما كانت سخيفة وجائرة، إلا فيما يخص الكتابة. "ولكن تعليمات وحيدة قررت أن أثور عليها وأخالفها، وهي الخاصة بعدم الكتابة، وذلك أن الكتابة بالنسبة للكاتب أشبه بالتنفس، وبدأتُ بمعاونة زملائي المسجونين عملية تهريب الورق والقلم، ثم عملية تهريب الرسائل إلى أخي علي أمين في لندن، وصديقي سعيد فريحة في بيروت، وعدد من الصديقات والأصدقاء خارج السجن. وكانت عملية خطرة وشاقة ومستحيلة، وكان الذين يقومون بها يعرضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع. كنت أعتمد على المسجونين المظلومين، فالمظلوم يتحوّل إلى شهيد، والشهيد يجود بآخر قطرة من دمه في سبيل هدف يؤمن به. وكان الهدف الذي نسعى إليه هو مقاومة الظلم، وخروج الحقيقة المسجونة إلى خارج الأسوار". عبّر "سنة أولى سجن" عن ضجيج وصراخ كل من تم قهره تحت شعار الثورة والديمقراطية التي كانت السوط الذي يُعذب به المُستبد ضحاياه، والذين وصفهم أمين بأنهم يكبرون الله ويذبحون البشر، وهم من يدعونه إلى حفلة تعذيب، وعزلوه عن الجريدة والأوراق والأقلام، ويرتكبون المذابح، ويحيكون المؤامرات الملفقة، ويودعون حياته في قبر هو السجن. أحمد فؤاد نجم.. أنا رحت القلعة وشفت ياسين في إحدى المرات التي دخل فيها الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم سجون الرئيس السادات عقب مظاهرات الطلبة عام 1972 كتب قصيدته الشهيرة "أنا رحت القلعة وشفت ياسين"، والتي تم اعتقاله فيها مع الشيخ إمام بعدها. "أنا رحت القلعة وشفت ياسين حواليه العسكر والزنازين والشوم والبوم وكلاب الروم يا خسارة يا أزهار البساتين عيطي يا بهية على القوانين أنا شفت شباب الجامعة الزين أحمد وبهاء والكردي وزين حارمينهم حتى الشوف بالعين وفي عز الظهر مغميين عيطي يا بهية على القوانين وقابلت سهام في كلام إنسان منقوش ومأثر في الجدران عن مصر وعن عمال حلوان مظاليم العهد المعتقلين عيطي يا بهية على القوانين وقابلت هناك عزت وجواد وقابلت كمان منذر ودياب أربعة أبطال شنقوا الجلاد التل يهوذا الفدائيين زغرطي يا بلدنا لدول مساجين".. وعاد الصديقان- نجم وإمام- مرة أخرى إلى السجن بعد اتهامهما بالتحريض في عام 1977، وكان قد جاء في نص قرار الاتهام أن نجم "دأب على كتابة القصائد المناهضة لنظام الحكم"، ليقضي الفاجومي داخل السجن 18 شهراً، وخرج ليذهب إلى جامعة عين شمس ويُلقي قصيدته الشهيرة "بيان هام"، فتم القبض عليه مرة أخرى حسب نفس الاتهام، الذي أحاله الرئيس السادات فيما بعد إلى المحاكمة العسكرية، ليوضع نجم في زنزانة "9" الشهيرة بسجن أبوزعبل. "هنا شقلبان محطة إذاعة حلاوة زمان لأن المخبى ظهر واستبان وكل المسائل بدت للعيان وطلعت حكاوى ونزلت كمان عن التهريبه وعن كيت وكان وعن محسوبيه وعن أُلعُبان ظهر في المدينة كأن الطوفان وغرق مراكب وسوح غيطان وبعض المراكب ح تغرق كمان وأزمة مساكن وأزمة أمان وعالم بياكل في عالم جعان وريحة مؤامرة فى جو المكان عبدالحكيم قاسم.. قدر الغرف المُقبِضة.. كانت هذه الرواية من أهم ما كتبه قاسم سواء على مستوى أعماله الأدبية، أو عن فترة السجن، حيث جاءت كلماتها وحكاياتها لتُجسّد جانباً كبيرًا من الحياة المأساوية التي عاشها قاسم في السجن مع رفاقة بتهمة الشيوعية، وظهر ذلك في لغة السرد لأحداث الرواية، وكثرة استخدام مفردات العتمة التي كان تكرارها يوّضح قسوة الحياة داخل السجن، والظلام الذي كان يسود المُعتقل، فارداً مساحة كبيرة للمجاز لتُعبر عن الظُلمة التي تطغى على عالم السجن. "ما زالت كلمات أبيه تعاوده بين آن وآن.. هذه الدار ريحها ثقيل"، كانت عبارة عبدالعزيز بطل الرواية عن الغرف التي تلازمه كالقدر مع نمو وتوالي سنوات عمره، والتي استمرت لتقبض على روحه وتُكبّل جسده وهو لا يزال طفلاً في القرية، ثم عند انتقاله للمدن لتكون هي نفسها الغرف المقبضة في البيت والمدرسة والجامعة والمسجد والزنزانة، والتي وصل إليها عبدالعزيز لانخراطه في عمل ثوري قاده إلى السجن، عارضاً تغيرات المجتمع المصاحبة للمد الثوري عقب يوليو 1952، حتى أن بعض النُقّاد رأوا أن الرواية ليست إلا جزء من سيرة عبدالحكيم قاسم نفسه، ولكنه استخدم الحيلة الروائية. في "قدر الغرف المقبضة" حكى قاسم عن ظلام السجون والآم المنفى، فانتقلت الغرف وذكراها مع البطل من إحدى قرى الدلتا إلى شوارع الإسكندرية إلى أزقة القاهرة، ثم سجون مصر المختلفة، وحتى أحياء برلين، وهو المكان الذي قضى فيه قاسم عشر سنوات بعد خروجه من السجن. فؤاد حداد.. المسحراتي سجين البرج.. كان حبه للناس وانحيازه لقضاياهم عاملاً كبيراً في قضاء الشاعر الراحل فؤاد حداد أيام طويلة في السجن، فالرجل الذي تخلى عن عائلته الثرية وعاش في المناطق الشعبية من أجل أن يظل واحداً من الناس، لم يستطع قلمه أن يحيد عن وصف مُعاناتهم؛ فكتب حداد في المعتقل الذي أطلق عليه اسم "البرج" في قصيدة له بنفس الاسم. "أنا ساكن البرج والتهمة سياسية مع النبي قلت كل الناس سواسية شعارات حماسية لكن العصب موجوع لو بطن واحدة اللي تصرخ بالعطش والجوع ما كانش يطلع كلامي كلته مسجوع". وكان إيمان حداد بالمساواة الكاملة بين الناس جعله يجلس دائما مع العمال والفلاحين، وهم أصدقاؤه في معتقله، حيث تم اعتقاله مرتين؛ فكتب في المرة الأولى قصيدة "الشهيد الإيراني"، وفي المعتقل الثاني كتب كثيراً، لأنه أخذ على عاتقه أن يقوم بالترفيه عن المعتقلين، وقرر أن يكتب لهم الشعر ليُزيد من قدرة تحملهم على قسوة المعتقل، وكان حسب وصفه عندما دخل المعتقل وجد معتقلين من مصر كلها معه من النوبة إلى الإسكندرية بثقافاتهم وبأغانيهم المختلفة؛ فكتب في المعتقل "الليلة يا سمرا"، "أراجيز الأراجوز"، و"الشاطر حسن" التي كتبها مع صديقه في المعتقل متولي عبد اللطيف و"الرقصات" على لسان الحيوانات. نجيب سرور.. ولو شنقوك ما تلعن مصر كان انضمام سرور إلى جماعة حدتو الشيوعية، وميوله اليسارية هو ما دفع نظام الرئيس عبدالناصر المُتشكك دائماً لاعتقاله بعد عودته من بعثة حكومية إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الإخراج المسرحي، فسُجن وعُذب العديد من المرات، وزجت عليه ممثلة مشهورة للتجسس عليه وآخرين، لذا تم نفيه في سرنديب، فكتب عن السجن. "أنت دخلت السجن مرارًا.. تكفي مرة ثبت هذي المعلومة.. كالنيشان إلى العروة وأجلس بين السذج والأغرار والأبرار ذوي القلب الأبيض سمسر بالسنوات السوداء قل ما شئت بغير حياء".. وبلغ التنكيل به أن أودع بمستشفى الخانكة أكثر من ثلاثة أعوام، وكان يسخر من هذا بطريقته المسرحية، ففي أحد الأيام فوجئ به أصدقاؤه يلف حول عنقه خيط دوبارة بدلًا من رابطة العنق، فضحك الجميع وسألوه فأجاب أنه يخشى أن يفتح الدوبارة فينفتح معها لسانه الذي لا يُرضي الحكومة؛ ولكنه لم يكتف بالسخرية من النظام المصري، وإنما تجاوز ذلك ليعترض بشكل صارخ على مجزرة أيلول الأسود، فقام بكتابة وإخراج مسرحية بعنوان "الذباب الأزرق"، فتم حصاره ومنعه من النشر، ثم اتهامه بالجنون، ليكتب في هذه الفترة قصديته الأشهر.. "الأميات". "يا ابنى أنا جعت واتعريت وشوفت الويل وشربت أيامى كأس ورا كأس طرشت المر يا ابني بحق التراب وبحق حق النيل لو جُعت زيي ولو شنقوك ما تلعن مصر".. صُنع الله إبراهيم.. يوميات الواحات دخل صُنع الله السجن في سياق حملة شنّها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ضدّ اليسار؛ وكان فرصته الحقيقية التي خرج منها كاتباً بعد أن سجّل التجربة كاملة في كتابه "يوميات الواحات"، وكان من حظه وجود مجموعة أدبية مُتميزة معه في السجن مثل عبدالحكيم قاسم وشهدي عطية، الذي مات إثر التعذيب في تلك الأيام العصيبة. ويحكي صُنع الله في كتابه عن المعتقل "نقلنا خبراء الأمن إلى الواحات في قطار خاص بعد أن قيدونا إلى بعضنا البعض بسلسلة واحدة تمر من ثقب في القيود التي يضم كل منها شخصين متجاوزين، وكان من شأن هذه الوحدة أن من يرفع يده لشيء ترتفع أيدي رفاقه كلها معه، وكذلك شأنه عندما يرغب بحركات أخرى في رحلة على مبعدة 400 كيلومتر لمدة عشرين ساعة من دون طعام أو ماء، وكان في انتظارنا اللواء إسماعيل همت المتخصص في الاستقبالات الدموية وحفلات التعذيب، سرنا في صحراء بين مدافع رشاشة مصوبة إلى صدورنا إلى أن ولجنا ساحة بها ثلاثة عنابر مستطيلة حديثة البناء من طابق واحد، لم نمكث كثيراً في الواحات سوى بضعة أشهر". ويحكي كذلك أنهم وضعوا في مكان منعزل، وحرموا من الاختلاط بالسجناء العاديين، والحصول على الصحف، كما منعوا من استخدام مكتبة السجن والاستماع الى المذياع "في تلك الأيام الشديدة البرودة، كنا نقفز كالقرود التماساً لبعض الدفء، وخلال ذلك نتبادل الحكايات، وبدأت أتذكر أحداث طفولتي التي انشغلت عنها بحاضري، وعندما انتهت الحكايات واستنفذت ذكرياتي انفتح المجال لاحلام اليقظة، وتأليف القصص، "وبعد أن خلت الساحة تم تجريدنا من ملابسنا حتى صرنا عرايا دون أن تكف الشتائم والضربات، وركعت أمام حلاق جز شعر رأسي وعانتي دون أن يتوقف الضرب بالعصي، بعدها أعطاني أحدهم لفافة من ملابس السجن وبرش وبطانية خفيفة"؛ ووصف حياة السجون بقوله "أرتني هذه التجربة بشاعة القهر ما يؤدي اليه من إهدار للكرامة الإنسانية، وعلمتني النظر إلى الإنسان ككل متكامل مؤلف من نقاط قوة، ونقاط ضعف، واحتل هذا الموضوع مكان الصدارة من تفكيري بعد ذلك فيما تلا من أحداث".