دخلوا السجون من كل ملة ودين وعلي كل لون. فالمثقفون يصيبون الحكام بالهرشة. لا يطيقونهم ولا يستغنون عنهم.. وقد عرفت المعتقلات أجيالا من حملة الفكر والقلم. معظمهم يدخلونها بغير تهمة. وإنما ينطبق عليهم بحق التأديب والتهذيب. ويسمونها أحيانا قرصة الأذن. أو حتي يتعظ الآخرون ويخاف السايب أو لعلهم يدخلون الحظيرة.. ويقولون أيضا بأنها ضيق الحكام من طول اللسان عندما يكتشفون ان "الكرباج" ليس هو كل شيء. يرمز لتلك العلاقة شاويش في سجن أبوزعبل كان يدخل عنبر المعتقلين الذي يضم أساتذة جامعات بقامة لويس عوض وعبدالعظيم أنيس وغيرهما فلا يحلو له إلا أن يخاطبهم في كل مرة ب "يا جاهل أنت وهوه". في المقابل يغازل المثقفون السلطة ويتمسحون بها طالبين الرضا. فيحصلون عليه إلي حين. حدث ذلك في عهود مختلفة وبطرق متشابهة وفي بلاد مماثلة. وقد يصيبهم الندم لأنهم لزموا الصمت علي ما يجري ولم يرفعوا الصوت احتجاجا ولو ان البعض اعتبر القيود والتعذيب مثل أكل الزبيب. كم أود أن اقرأ كتابا صدر قبل أكثر من خمسة عشر عاما يناقش حدود حرية التعبير ويروي تجربة كتابة القصة والرواية في عهدي عبدالناصر والسادات للباحثة السويدية "مارينا ستاج" وترجمة طلعت الشايب. تضمن لقاءات مع الكتاب المصريين الذين اعتقلوا لأسباب سياسية وليس بسبب كتاباتهم ونشر أعمالهم في ظل مناخ الخوف واللجوء إلي الرمز.. ويذكر عبدالحكيم قاسم أن "دار الهلال" رفضت نشر إحدي رواياته في الستينيات لأن كاتبها يساري أما الرواية فقصة حب بين سائحة سويسرية وكاتب مصري شاب. انها علاقة بالغة التعقيد بين السلطة والمثقف. هي التي جعلت كثيرين ممن عرفوا عذاب السجون يدافعون حتي اليوم عن عبدالناصر كلهم بكوا عليه وكتبوا المرثياث وعندما سئل الشاعر عبدالرحمن الأبنودي لماذا ترثيه وهو الذي سجنك. قال: "اللي سجنا طلع أحسن من اللي ما سجناش". يذكرنا "معن البياري" في جريدة الحياة اللندنية بسجون عبدالناصر التي اربكت الثقافة العربية ويروي اعتراف الكاتب والناشر اللبناني "سهيل ادريس" بمسئولية المثقفين العرب وتقصيرهم ازاء اضطهاد السلطة لهم. ويذكرنا أنه واحد من الذين لزموا الصمت عندما سجن المفكر المصري محمود أمين العالم والآخرين وأنه رفض نشر رواية "صنع الله ابراهيم" نجمة أغسطس في دار الآداب التي يملكها لأن فيها نقدا لتجربة عبدالناصر. ومع تلك الاعتذارات فإن الحال باق علي ما هو عليه. ومازال اعتقال المثقفين هواية الحكام. فذلك أسهل.. ومازال المثقفون ينافقون الحكام.. إذا سمح لهم!!