الحب، روح الحياة، دققات القلب التي تغذي كامل الجسد، ما وجد في أمر من الأمور إلا وأضفى عليه حالة من الجمال، الحب ليس حب الرجل للمرأة أو الحبيب لحبيبه فقط، وإنما الحب بمضمونه الأوسع والأشمل الأعم، لا أحد يعرف حتى كيف يأتي هذا الحب، وفي أي لحظة يبدأ. يقال إنه أعمى، ولكنه في واقع الأمر البصر والبصيرة، لكنه غامض أيض، طبعه التمرد والجنون، لا يمكن تبريره، إنه عاطفة مجردة لا تخضع لمعايير العقل وحساباته، آية ذلك أن الإنسان قد يحب امرأة وهي لا تشعر به، يقترب منها فتبتعد عنه، يهتم بها فتهمله، وكلما وصل إليها تهربت منه، إنها لا تحبه وهو لا يملك إنهاء تلك العلاقة المأزومة الفاشلة التي ماتت قبل أن تولد، إنه لا يتصور حياته دونها، فهي عنده شمسٌ وقمرٌ والنساء يدرن في أفلاكها، وفي أعماق ذاته يوقن أنها لن تقبل عليه فالحب يوهب ولا يُكتسب وطالما هو غير موجود فالمستحيل هو غرسه في قلوب من نحبهم. ومع ذلك لا يملك هذا المعذب الأبدي في لفت نظر معشوقته ومحاولة فرض وجوده على قلبها، ولو ترك المحب فرصة لعقله لأنهى ذلك الشقاء الذي لا معنى له، غير أن صاحبنا –وهنا تكمن الغرابة- لا يفقد الأمل، وبالمثل نفس الأمر لدى المرأة عندما تحب، وتمتلكها تعويذة العشق الساحرة، تجدها تبذل كل طاقتها وجهدها لتبدو الزهرة الأولى في بستان من تحب، وحينما لا يشعر بها تجدها بدأت في الذبول، وكأنها غرست في صحراء صيفية ملتهبة ببرود الإحساس وتجمد المشاعر. ابن عربي المتصوف ابن عربي يرى العشق هو غاية المحبة فالمحبة صفة عامة والعشق صفة خاصة ومحله سويداء القلب؛ فالعشق إذن درجة أعلى من الحب، وكما يقول إخوان الصفا: "العشق هو إفراط المحبة وشدة الميل إلى نوع من الموجودات وإلى شخص دون سائر الأشخاص بكثرة الذكر له وشدة الاهتمام به أكثر مما ينبغي". ونخرج من كل ذلك بتعريف للحب لا ندعي كونه يجمع ويمنع ولكنه يبقى محاولة هي أفضل من لا شيء، فالحب ميل وانجذاب وتعلق بشخص ما يجعل المحب مشدوهًا مشدودًا بلا إرادة وبقوة مغناطيسية هائلة إلى الطرف الآخر ويبدو ذلك في الاهتمام بالمحبوب ومداومة النظر إليه واستحسان ما يصدر عنه من أقوال وأفعال مع افتقاده إذا غاب والسعي إلى ملازمته وتفضيل القرب منه والعمل على تملكه في علاقة غايتها الحصول على السعادة بتحقيق ذاتها وذات المحبين، والحب أوله إعجاب تليه المودة بعدها المحبة ثم الهوى يتلوه العشق، وأخيرًا الوله الذي هو إلى الجنون أقرب. نزار قباني لم يكن نزار قباني يهذي عندما نظم قصائده، ولكنه كان يرصد واقعًا لا يعرفه إلا من اغترف بيديه من كأس الهيام حتى ارتوى، فما أكثر الذي قيل عن الحب، وما أكثر من تكلموا فيه، تلك العاطفة الملائكية التي تشبه إلى حد بعيد السحر، حيث تربط بين الأرواح المتباعدة برباط مقدس لا ينفك ولو بزوال الأرواح، أو تباعد الأجساد، بل يزداد قوة وهياما كلما ازداد العاشق صدًا وإعراضًا. كما زخر التراث العربي بكثير من قصص الشعراء العشاق وأتحفنا بثنائيات رائعة بسطت ظلها على وجداننا فعاشت فيه وأينعت وأثرت فينا أيما تأثير ومن هذه الثنائيات "عنتر وعبله"، "قيس وليلى" "ابن زيدون وولادة بنت المستكفي". وللعرب في قصص الحب باع طويل، ورغم أن أغلبها ينتهي نهاية محزنة، إلا أنها تعتبر من أجمل ما حمل لنا التاريخ من عبير الأيام الخوالي، المتقد بالدفء والحنين، ويذكرنا كلما مررنا بقصة من قصصه بالجمال والبساطة المغلفة بالحب. مجنون العامرية الذي رآه قيس المجنون في ليلى العامرية، لا شك أنه صورة مثالية أنشأها خياله المحض، فليلى لم تكن بارعة الجمال وكانت امرأة عادية على كل المستويات، غير أن خيال قيس تصورها مخلوقًا روحيًا لا ينتمي إلى دنيا البشر، وعندما قيل له: "إن ليلى تراها من الحور وفي كل عضوٍ منها قصور" قال" "لو كانت لكم عين المجنون ما رأيتم فيها غير الجمال"، لقد كان قيس شاعرًا والشعراء هم أكثر الناس عاطفة وخيالًا، ومعشوقته التي هام فيها كانت تمثالًا صنعه على هواه ورأى فيه كل ما أحبه من صفات، وليس يعنيه بعد ذلك أن تكون ليلى قصيرة القامة جاحظة العينين وكانت هكذا بالفعل، وحين صارحه أبوه بذلك وقال إن في قومه نساء هن أفضل منها أنشد. عنترة أكثر عنترة من التغزل بابنة عمه عبلة بأشعاره حتى تناشدت بها العرب وقيل بعضها بين يدي شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد. وكان في مجلس شرب، وكان عندهما عمرو أخو عبلة، فقال شاس لقد اعجب هذا العبد بنفسه وترفع عن العبيد فقال الربيع: "والله ما أطمعه في ذلك إلا أبوك واخوك مالك، فثارت نفس عمرو وقال: "والله لئن سمعته يذكر أختي في شعره لأسفكن دمه فلما كان الصباح ركب عنترة جواده وأخواه بين يديه يسوقان الجمال في المرعة، وكان أخوه شيبوب من أفرس الشباب إذا عدا لحق بالغزلان وكان أولاد الملك زهير قد ذهبوا إلى وليمة عند عمهم اسيد حيث طلبوا منه ألا يبعدهم عن الحي ويسقيهم على بعض روابي الأعيان فأرسل عبيده بالأغنام والطعام والمدام إلى ربوة خضراء مشرفة على الصحراء، حولها عيون جارية ولحق بهم أولاد الملك زهير العشرة وهم شاس، وقيس، ودرقة، ومالك، وخداش، والحارس، وكثير، وجندل، وجندب، ونهشل. ولما جلس القوم أكلوا وشربوا، ثم مد مالك عينيه فرأى عنترة عند سفح الجبل ومعه أخواه فقال لاخوته: "هذا عنترة بن شداد الذي افتخر على العرب وساد. ثم أمر أحد العبيد بأن يذهب ليدعوه إليهم ليشاركهم مجلسهم هذا، فقال شاس لأخيه: "إني أراك تحسب هذا العبد شيئًا كبيرًا وتنسب إليه قدرًا خطيرًا والله لولا خوفي أن أنغص على أبي وليمة الأمس لضربت رأس هذا العبد النحس، ولئن حضر الآن على هذا المدام لأضربن عنقه بهذا الحسام، وبينما شاس وأخوه مالك في هذا الحوار، اذ سار في الجو الغبار وانجلى عن ثلاث مائة فارس، كأنهم الليوث والعوابس، فلما خرجوا من تحت الغبار وقربوا من المرعى ورماحهم تتلوى كالأفاعي انفصل منهم عشرة فرسان أبطال شجعان. وكان أولئك القوم من بني قحطان، خرجوا من أرضهم حتى اتوا أرض بني عدنان، وصادف مرورهم على مراعي بني عبس فرأوا الجماعة يشربون المدام. فقال بعضهم لبعض: "احملوا بنا على هذه العصابة لنأخذهم أسارى ثم انهم حملوا عليهم، وبادروهم بضرب السيف فلما رأى ذلك بنو عبس تواثبوا إلى الخيول واختطفوا الرماح وطبقت عليهم فرسان اليمن فسمع عنترة بن شداد صياحهم وقد مدوا إلى بني عبس رماحهم، فخاف عليهم أن تنصبهم الأعداد، لا سيما لأجل مالك بن زهير الذي أحبه، فصاح في أخيه شيبوب وأسرع حتى أدرك مقدم القوم "فاتك بن محبوب" فانقض عليه، وطعنه في صدره، فانطرح قتيلًا بدمائه وحمل بعده على الرجال، ففرقهم ذات اليمين وذات الشمال، ونثرهم بالحسام فوق الرمال. ارتفع موضع عنترة وزاد في عبلة طمعه، وكانت هي سبب فصاحته لأنه كلما ذكرها انطلق لسانه بالشعر الرقيق، حتى وقعت هيبته في قلوب الأنام، وسمعت بذلك الشعر أم عبلة وأبوها، غير أنهما لم يكترثا به، فلما كثر الحديث عند أم عبلة دعت عنترة إليها، وقالت له: "ياعنترة، سمعت أنك تحب ابنتي وتذكرها في شعرك". وكانت عبلة بجانبها وقد أرخت ذوائبها، وسمعت أمها تقول لعنترة ذلك المقال، فتبسمت عن ثغر نادر المثال فازداد بعنترة الهيام، وقال: "ياسيدتي. هل رأيت من يبغض مولاته..! أي والله أحبها وحبها لا أنكره وصورتها لا تبرح ناظري، وقالت له: "سأطلب لك من زوجي أن يزوجك خمسية جارية ابنتي عبلة فليس لها شبيه في الجمال ولا حاز مثلها رجل من الرجال، فتبسم عنترة في حسرة وقال والله ما أتزوج غير من يهواه الفؤاد، فهمست عبلة في أذن عنترة "بلغك الله أمانيك" وشاعت أبيات عنترة في جميع القبائل فازداد حقد أخو عبلة وأثار عليه شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد، فواعداه على قتله، ولكن هذا الأمر لم يثني عنترة عن حبه الصادق لعبلة التي ركب الأهوال لأجلها، ووفى لها حتى صارت قصته معها مضربًا للأمثال طيلة تاريخ العرب حتى يومنا هذا.