لم يولد عنترة شاعرا كغيره من شعراء القبائل فى الجاهلية، ولكن شاعريته تفجرت متأخرة بعد أن ثبتت فروسيته، وتمكن حب عبلة من قلبه، وبعد أن يعايره نفر من قومه بأنه لا يقول الشعر.. فتحداه وتحدى كل ظروفه.. ونطق بالشعر مفاخرا بفروسيته معلنا عن حبه.. معبرا عن أحواله.. مسجلا لسيرة حياته. وعلى الرغم من شهرة قصته مع عبلة وتحولها إلى أفلام ومسلسلات وأسطورة شعبية يرويها المداحون، إلا أن كتاب السيرة لا يعتبرونه من «العذريين» مثل قيس وليلى وجميل وبثينة وغيرهم، وإنما أعدوه من «المتيمين» بالحب! وكذلك بالنسبة للشعر.. فعلى الرغم من وصفهم لمعلقته ب «الذهبية» لحسن التصوير وسهولة ألفاظها وجمال موسيقاها.. فإنهم أيضا لا يعدونه من كبراء الشعراء، مع أنه يكفيه قوله هذين البيتين الشهيرين اللذين يكشفان عن حب عميق لا ينسى حتى والحبيب فى حومة البغى، فقد تذكرها والرماح تغزو جسده والسيوف الهندية تقطر بدمه، فأراد تقبيل تلك السيوف اللامعة لأنها تذكره بثغرها المتبسم: ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى وبيض الهند تقطر من دمى فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم وقد أوقف عنترة غزله لعبلة وحدها.. ولم يرغب فى سواها وها هو ذا يصف نفسه لها وكأنها أوراق اعتماده.. كحبيبها: يا عبل.. أين من المنية مهربى إن كان ربى فى السماء قضاها إنى أمرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها ولئن سألت بذاك عبلة خبرت ألاّ أريد من النساء سواها وأجيبها إن ما دعت لعظيمة وأغيثها.. وأعف عما سواها كما أنك إذا سألت عن حالى فى الحرب يخبرك من حضرها يأتى كريم عالى الهمة وأعف عن اغتنام الأموال: هلا سألت الخيل يابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمى يخبرك من شهد الوقيعة أننى أغشى الوغى وأعف عند المغنم ولكن مشكلة عنترة لم تكن مع عبلة.. فقد بادلته حبا بحب.. بل هامت به ولم ترغب فى سواه.. ولكن مشكلته كانت مع عمه مالك أبو عبلة الذى رفض هذا الحب وامتنع عن تزويجه إياها.. لأنه عبد أسود مشكوك فى نسبه، ولا يحق له عشق عبلة الحرة! وهو ما كان يؤلم عنترة.. فيصرخ شاكيا: يا عبل.. كم يشجى فؤادى بالنوى ويروعنى صوت الغراب الأسود كيف السلوّ وما سمعت حمائما يندبن إلا كنت أول منشد وسألت طير الدوح كم مثلى شجا بأنينه وحنينه المتردد ولم يكتف عمه بالرفض ولكنه اصطحب ابنته ورحل عن القبيلة، ونزل عند بنى شيبان.. فحزن عنترة، لذلك حزنا شديدا وخشى أن يفقدها إلى الأبد: إذا كان دمعى شاهدى كيف أجحد ونار اشتياقى فى الحشا تتوقد أقاتل أشواقى بصبرى تجلدا وقلبى فى قيد الغرام مقيد سأندب حتى يعلم الطير أننى حزين ويرثى لى الحمام المغرد وقد علم عنترة أن عمارة بن زياد يرغب فى خطبة عبلة وأبوها لا يمانع، كما علم أن فارسا آخر هو روضة بن منيع السعدى جاء لخطبتها.. فدعاه إلى المبارزة.. بادئا بقوله: كم يبعد الدهر من ارجو أقاربه عنى.. ويبعث شيطانا أحاربه فياله من زمان.. كلما انصرفت صروفه.. فتكت فينا عواقبه كم ليلة سرت فى البيداء منفردا والليل للغرب قد مالت كواكبه يا طامعا فى هلاكى عد بلا طمع ولا ترد كأس حتف أنت شاربه وعندما وقع فى الأسر فى حرب بين العرب والعجم، وكانت عبلة من ضمن السبايا، لم يستسلم وتمنى الموت.. وتذكر ما كان بينه وبين حبيبته.. متحسرا على قسوة الدهر عليه: يا دهر لا تبق علىّ فقد دنا ما كنت أطلب قبل ذا وأريد يا عبل.. قد دنت المنية فاندبى إن كان جفنك بالدموع يجود لهفى عليك إذا بقيت سبية تدعين عنتر وهو عنك بعيد يا عبل.. كم من جحفل فرقته والجو أسود والجبال تميد فسطا علىّ الدهر سطوة غادر والدهر يبخل تاره ويجود هكذا كان عنترة وعبلة.. ذكريات قديمة وحب حاضر وفراق دائم.. والغريب أن كتب السيرة والأشعار لم تخبرنا.. كيف كانت النهاية؟.. بل تعددت الروايات فى موت عنتره نفسه الذى قيل إنه بلغ التسعين من عمره.. وقيل إنه مات مقتولا إثر رميه بسهم مسموم من فارس طئ يدعى الأسد الرهيص.. ونظرا لكبر سنه وضعف بصره فإنه لم يستطع أن يتلافى السهم الذى سدد إلى ظهره. ونختم ببعض أبيات لفارسنا الشاعر يشكو فيه الدهر.. وصنوفه.. وما جناه عليه: أعاتب دهرا لا يلين لنا صح وأخفى الجوى فى القلب والدمع فاضحى فيارب لا تجعل حياتى مذمة ولا موتى بين النساء النوائح ولكن قتيلا يدرج الطير حوله وتشرب غربان الفلا من جوانحى نعم يا عنترة.. فقد مت قتيلا.. ونعق طير البين على جثتك وشربت غربان الصحراء من دمك! ألست أنت القائل: ناشدتك الله يا طير الحمام إذا رأيت يوما حمول القوم فانعانى وقل طر يحا تركناه وقد فنيت دموعه.. وهو يبكى بالدم القانى