القارئ المتدبر للقرآن الحكيم، يجد أن المولى سبحانه وتعالى تحدث عن مصر في كتابه العلي المعجز بطريقتين: الأولى: أن تذكر (مصر) باسمها الصريح المباشر، وقد تم هذا في أربعة مواضع. الثانية: أن تذكر بصورة غير مباشرة أو غير صريحة، وقد تم ذلك في ثمانية وعشرين موضعا. ولكل موضع منها دلالاته وأسراره. ومن النوع الأول آية تتحدث عن مصر وشعبها، وهي قوله تعالى في سورة يوسف: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا...)، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية وردت في سياق حديث السورة عما تعرض له يوسف من كيد وإيذاء من قبل إخوته، ظنا منهم أن أباهم يفضل يوسف وأخاه عليهم، فما كان منهم إلا أن ألقوه في البئر ظلما وعدوانا، وأخبروا أباهم - كذبا - بأن الذئب قد أكله وهم عنه غافلون. مجيء الآية التي معنا في هذا السياق يدل دلالة واضحة على أن الله الرحيم العادل قد عوّض يوسف عما تعرض له - من قبل مَن يُظن بهم أنهم أرحم الناس به وأخوفهم عليه - بأرض غير الأرض وأهل غير الأهل، وتبرز من خلال ذلك السياق عدة دلالات نحتاج - كمصريين - إلى إدراكها والتحلي بها في هذه المرحلة التي تمر بها مصرنا الغالية. أول هذه الدلالات تتعلق بمصر نفسها: ذلك أن الأرض التي كانت عوضا ليوسف عن البادية التي كان يعيش فيها هي (مصر) المعروفة بحضارتها، المشهورة بعمارتها، المذكورة على الدوام بخيراتها وثروتها، والتي لم تماثلها دولة في مكانتها وعزوتها، وهذا مفهوم من تعبير القرآن الكريم عنها بالاسم الصريح العلم (مصر)، الذي إذا ذُكر استُحضرت تلك المعاني وغيرها. إن التعبير عن مصر هنا بالاسم العلم فيه دلالة صريحة على أنها كانت في ذلك الزمان السحيق - الذي لم يكن فيه شيء من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة - من الشهرة والسمعة والمعرفة بمكان، وأن لشعبها من السمات والخصال ما يجعل من ساقه قدره إليها ذا حظ وافر من العيش الهانيء الكريم، وعليك أخي القارئ أن تستحضرالمكانين(مصروالبادية) بصورتيهما، ليتضح لك مدى الإنعام الذي أنعم الله تعالى به على يوسف بدخوله أرض دولة مصر. وفي هذا المقام يتبادر إلى الأذهان الرسائل المتبادلة بين عمر بن الخطاب و عمرو بن العاص رضي الله عنهما بشأن مصر، إذ كتب عمر إلى عمرو قائلا :( فإني فكرت في بلدك، فإذا أرضك واسعة، عريضة رفيعة، قد أعطى الله أهلها عددا وجلدا، وقوة في بر وبحر، قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم، فعجبت من ذلك، فأحب أن تكتب إليّ بصفة مصر كأني أنظر إليها.) فكتب إليه عمرو كتابا جاء فيه: (...إن مصر وما أحببت أن تعلمه من صفتها تربة سوداء وشجرة خضراء بين جبل أغبر ورمل أعفر...ما بين جبلها ورملها بطن أقب وظهر أجب، يخط فيه نهر مبارك الغدوات، ميمون البركات، يسيل بالذهب ويجري بالزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر... فتبارك الله أحسن الخالقين). هذه هي مصر كما سمع عنها أمير المؤمنين، وكما عاينها قائد جيشه العظيم، وكما يُفهم من كتاب ربنا الحكيم، الذي جاء في موضع آخر منه ما يدل على أن مصر قد قامت فيها نهضة علمية وحضارية، تقدمت بها على غيرها من الأمم، وسبقت بها غيرها من الدول، مما جعل فرعون يبرر ادعاءه الألوهية بأنه يملك هذا البلد الذي لا يماثله بلد، وذلك في قوله تعالى من سورة الزخرف (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)(51). إن إثبات القرآن الكريم ذلك عن مصر في آياته لهو مصدر فخر واعتزاز للمصريين، كما أن استحضاره والتذكير به في هذه الظروف قد يكون عاملا في الخروج من الكبوة والعودة بها إلى سابق الأمجاد والقمة، فلسنا أقل من القدماء الذين بلغوا بها عنان السماء، بل إن لدينا من الطاقات والإمكانات ما يفوق ما كان لديهم، ويزيد على ما كان عندهم، فهل نحن فاعلون؟ د. صبحي المليجي كلية اللغة العربية بالمنوفية [email protected]