كثيرة هي آلام المصريين الذين يعيشون بعيدا عن وطنهم الحبيب وحضنه الدافئ، الذي لا يجدون له، مثيلا مهما شرقوا أو غربوا، وكثيرة هي أيضا أحلامهم التي يحلمون بها لهذا الوطن المعطاء. فهم يتألمون أشد الألم لما أصاب وطنهم الحبيب على أيدي بعض أبنائه، بعد أن كانوا حديث العالم بثورتهم الملهمة والمعلمة، حيث راح نفر منهم يتراقصون على جراحه ويتغنون بآهاته، غير مبالين بما يسببه ذلك الرقص من آلام، وما يبعثه ذلك الغناء من أحزان. ويحلمون باليوم الذي يتعافى فيه وطنهم مما نزل به، حين تؤتي ثورته المباركة أكلها، وتنضج ثمرتها، بعد مرحلة المخاض العسير الذي يمر به، وعندها ستزداد فرحتهم بوطنهم، وسيداومون رفع رؤوسهم بما حققه المصريون لبلدهم، ويقولون: متى هو؟ ونقول: إنه قريب جدا بإذن رب العالمين. وهم يتألمون عسير الألم لبعدهم عن وطنهم، الذي يعيش في داخلهم، أينما حلوا أو ارتحلوا، ويتمثلون قول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة(والله يا مكة إنك أحب البلاد إلى الله، وإنك لأحب البلاد إليّ...) ويحلمون باليوم الذي يعودون فيه لوطنهم الحبيب، الذي ملأ حبه كيانهم، وشغل عليهم أفكارهم وعقولهم، ليستقروا فيه، ويبنوا مع إخوانهم أمجاده من جديد، ولقد حدثني مصري مغترب بأن أسوأ شيء يعانيه المصري المغترب هو البعد عن بلده، والشعور بأنه يبني في وطن غير وطنه، وأن تلك الطيور المهاجرة لو عادت كلها إلى عشها، لأصبحت مصر بهم من أفضل بلدان العالم. ويتألمون من أجل تعرض بلدهم لأزمة اقتصادية طاحنة تكاد تعصف بمستقبلها، وتهدد استقرارها لفترة زمنية طويلة، ويحزنون عندما يعلمون أن سبب حصول ذلك هو قسوة قلوب بعض أبنائها وتحجر مشاعرهم، حيث قاموا بتهريب ثرواتها وإيداعها بأسمائهم وأسماء الآثمين من شركائهم في البنوك الأجنبية، وكأنهم ليسوا مصريين، ولم يشربوا من نهر النيل!! ويزيد من حسرتهم تقاعس الحكومات المتعاقبة عن تتبع هذه الأموال، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستردادها، والتنعم بها، ذلك أنها تكفي مصر وتعفيها من مذلة الاقتراض المشروط من البنك الدولي(الأمريكي) أو من غيره. ويحلمون بعودة مصرهم غنية بما أودعه الله تعالى في أرضها من ثروات، وبما حباها من موطنين صالحين، دافعوا عن العروبة والإسلام قرونا وسنين، وأذكر هنا مقولة مصري في الخارج نقلا عن كثير من الغربيين(قولوا لنا ما الذي لا يوجد عندكم في مصر؟)، في إشارة إلى ما منح الله تعالى مصر من موارد وثروات، تجعلها في مصاف أقوى البلاد من الناحية الاقتصادية. ويعزمون على دعم اقتصاد بلدهم بما يحتاجه منهم؛ شريطة أن يتولى أمرها أناس يتحلون بالقوة والأمانة، والصدق والشفافية، يعتبرون المسؤولية مغرما يُكلفون به، لا مغنما يتصارعون عليه. وينزعجون أشد الانزعاج، ويبكون بدمع غزير؛ بسبب محاولة سرقة الثورة، وإعادة إنتاج النظام السابق، وترشح عدد من رموزه، على رأسهم ذلك الجزار الذي شارك مع رئيس وزراء الخائن المخلوع في ذبح المصريين، وإسالة دمائهم. ويأملون وقوف الشعب في وجه هؤلاء، وعدم التصويت لهم، والإدراك الكامل لمخططاتهم، وفي الوقت نفسه يعيبون على النخب السياسية صراعها، والنظر إلى مصالحها الشخصية، وعدم تقديم المصلحة الوطنية، مما أدى إلى أن يهتبل الفلول هذه الفرصة، ويقدمون أنفسهم للناس على أنهم المنقذون القادرون على تحقيق طموح المصريين وآمالهم. لقد التقيت كثيرا من المغتربين في هذه الفترة فلا أجدهم إلا حزانى مهمومين، لا يشعرون بلذة، ولا شيء عنهم له نكهة، تلمح في عيونهم الدموع، وتبدو في كلامهم الحسرة، وعند سؤالهم عن سر ذلك يردون مستغربين(يعني عاجبك اللي البلد فيه؟!!)، فاجتمعت عليهم الهموم، وتكالبت عليهم الأحزان، وما عساهم يفعلون، وهم عن وطنهم الحبيب بعيدون؟ قد يظن بعض المقيمين في الوطن الحبيب أن المغتربين في راحة، وأنهم لا يفكرون سوى في أنفسهم، والعكس هو الصحيح، وما هذه الآلام والأحلام إلا غيض من فيض وقليل من كثير، نبثها لله تعالى أولا، ثم لإخواننا المقيمين ثانيا، عساها تلقى آذانا صاغية، وقلوبا حية واعية. د. صبحي المليجي [email protected]