في وسط الزخم الإعلامي والجدل الحامي الدائر بين المفكرين والكتاب ومنتسبي الأحزاب، حول قرار تعديل المادة 76 من الدستور ليكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب، ذلك الجدل الذي انصرف عنه عموم الناس عندما اختلطت الأوراق في أيدي المتجادلين ولم يعودوا قادرين علي التفرقة بين ما هو جاد وما هو هزل.. غاب عن الجميع السؤال الأهم ألا وهو هل حققت ثورة يوليو 1952 أهدافها؟ وبالتالي هل آن الأوان لإنهاء "حالة الثورة" التي نعيشها بكل ما تنطوي عليه من مضامين وأفكار ثورية، وبكل ما تتطلبه من أشكال الزعامة لقيادة معارك الثورة بدءا من معارك التحرير والاستقلال التي تطلبت اتخاذ قرارات الحروب وتجييش الجيوش ومعارك التغيير والإصلاح الي المعارك ضد الجهل والفقر والمرض والتي تطلبت حشد الجهود واتخاذ قرارات الإصلاح الزراعي والتمصير والتأميم والحراسة.. ففي حالة الثورة يصبح التعامل مع المشكلات نوعا من أنواع المعارك التي تتطلب حسم وحزم القائد لمواجهة أعداء الثورة في الداخل والخارج.. وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت الثورة قد حققت أهدافها وأرست مبادئها يصبح علينا الانتقال طوعا وسلما من "حالة الثورة" إلي حالة "الاستقرار المدني"، بكل ما يتطلبه ذلك من تطوير وإعادة هيكلة للنسق السياسي والاقتصادي والاجتماعي وايضا الثقافي والاداري لايجاد مناخ جديد يعيش فيه الشعب المصري.. ويؤسس لمشروعه الحضاري للتقدم والارتقاء في جميع المجالات من خلال الجهود المبدعة والخلاقة لأفراده والتفاعل الايجابي مع معطيات العصر من العلوم والتكنولوجيا.. أعتقد أن علينا جميعا أن نتوقف عن الجدل الذي لا طائل منه ونتأمل بهدوء وموضوعية مغزي قرار تعديل المادة 76 في هذا الوقت بالتحديد.. وما يتيحه ذلك للشعب المصري من فرصة تاريخية حقيقية وليست مجرد شعار عليه أن يتمسك بها ويطورها في اتجاه تعميق وتوسيع مجالات الحرية السياسية التي تمكنه من الانتقال الي مرحلة جديدة تسود فيها مفاهيم المواطنة الصحيحة والحكم الصالح والديمقراطية وكلها تتطلب المشاركة الفعالة من كل الفئات. ولأن ثورة يوليو جدورها وطنية، لم تخرج من عباءة أيدلوجية وعقائدية كما كان الحال بالنسبة للثورة الشيوعية مثلا والتي كانت مبنية علي أفكار فلسفية مادية وضعها منظروها وقادتها من أمثال ماركس ولينين وتروتسكي والتي كان من ضمن مبادئها ديمومة الثورة أو الثورة الدائمة.. وديكتاتورية البروليتاريا وكان مصيرها الانهيار التام.. ولا هي ثورة دينية أو عرقية، ولا هي كما يحاول أن يروج البعض انقلاب عسكري رغم أن من فجرها كانوا من العسكريين، ولأنها ما كان يمكن أن يكتب لها الاستمرار لولا ما لاقته من ترحيب وتأييد شعبي حقيقي حولها من حركة تصحيحية للجيش الي ثورة وطنية.. ولأنها أعلنت عن مبادئ وأهداف واضحة ومحددة وبسيطة تحمل من القيم الحضارية والأخلاقية أكثر مما تحمل من خطط وأجندات عملية.. ولأن ثورة يوليو في مجملها تجربة وطنية غير مسبوقة بالنسبة للشعب المصري الذي عاش تاريخا طويلا تحت صور واشكال عديدة من الحكم الذي كان في مجمله حكما اجنبيا عن مصر أيا كانت هويته.. مهما كانت درجة إخلاص الحكام الأجانب أو حبهم لمصر ومهما كانت ايجابياتهم أو سلبياتهم ولأن التجربة كانت طويلة.. وأحيانا كانت مريرة.. خاض خلالها الشعب المصري علي مدي أكثر من نصف قرن من الزمان معارك عديدة منها ما هي معارك حقيقية ومنها ما كان معارك مفتعلة أو لا مبرر لها.. ولكن علي أي الأحوال دفع ثمن كل تلك المعارك.. ولأن ما يشهده العالم اليوم من متغيرات وما حققته البشرية من تطور مذهل في جميع مناحي الحياة خاصة النقلة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة.. والتي تتطلب نسقا جديدا من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفاعل مع عالم جديد يتسم بالمتغيرات الحادة والمتسارعة والحرية الفائقة في نقل وانتقال الافكار والمعلومات والأفراد ورؤوس الأموال والخدمات وايضا الثقافات.. لكل ذلك.. ولأكثر منه فإن الأمر يتجاوز تغيير المادة 76 من الدستور الحالي أو حتي غيرها من مواده، فدستور 71 الدائم دستور متوافق تماما مع الظروف والحالة السياسية التي كنا ومازلنا نعيشها.. وهي حالة الثورة.. والانتقال من حالة الثورة الي حالة الاستقرار المدني المنشودة.. لا يمكن أن يتم عبر تغيير مادة أو أكثر من الدستور ولكنه يتم من خلال عملية تصويب وتعديل وتطوير لمنظومة القيم والثقافة المجتمعية التي ظلت تحكمنا علي مدي سنوات طويلة مثل ثقافة اللامبالاة والأنامالية نسبة الي جملة "وأنا مالي" الشهيرة، وثقافة التعطيل والتعويق وفقد الإحساس بالزمن.. وثقافة الانعزال وعدم المشاركة وثقافة الانتخابات "التربيطية" المبنية علي التربيطات العائلية والمصلحية وثقافة عدم بذل الجهد لتحقيق النجاح مع إجادة سلبه من الآخرين وغيرها من القيم السلبية والمعوقة مع تعظيم منظومة القيم الايجابية وف