.. حتي ولو كانت مزحة فهي تعكس التفكير الأمريكي تجاه العالم في ظل الادارة الحالية كما تلخص الي حد يعيد تفاصيل واهداف السياسات الاقتصادية القائمة الآن، والحكاية ان الرئيس الامريكي عقب استقباله لرئيس الوزراء الايطالي سلفيو بيرلسكوني الذي شكا له من مخاطر تدهور الدولار علي الاقتصاد العالمي قال للصحفيين مخاطبا من خلالهم العالم "اذا كنتم تخشون من عجزنا التجاري وتدهور الدولار.. اشتروا بضائعنا" ورغم أن الرئيس بوش نوه بعد ذلك انه سيعمل علي خفض العجز في الحساب الجاري الي 6.1% من الناتج الاجمالي الامريكي خلال السنوات الاربع القادمة مقابل 6.3% حاليا الا ان الرسالة التي اراد ايصالها للجميع لابد وانها وصلت للجميع من خلال هذه المرحلة الرئاسية. مضمون الرسالة هو نفسه جوهر السياسات الاقتصادية التي تمارسها بصرامة ادارة المحافظين الجدد في واشنطن والتي ما فتئت تؤكد علي تمسكها بسياسة الدولار القوي وعمليا تترك الدولار يتراجع الي حد الانهيار مقابل باقي عملات العالم وعلي رأسهم اكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة الهدف من ترك الدولار يتراجع واضحاً كالشمس فمعني تراجع العملة هو رفع تكلفة التصدير للاسواق الامريكية مما يقلص الواردات ويضعف موقف الشركاء التجاريين كما انه في نفس الوقت يجعل السلع والخدمات الامريكية ارخص فتزيد الصادرات الامريكية للخارج.. ايضا يساهم الدولار الضعيف في خفض القيمة الفعلية لديون الولاياتالمتحدة للخارج وهي بالمناسبة اكبر مديونية في العالم، كذلك فإن تراجع الدولار يجبر الشركات العالمية علي نقل مزيد من استثماراتها الي الاسواق الامريكية او الي دول تربط عملائها بالدولار وفي هذا مصلحة أكيدة للاقتصاد الامريكي، والخلاصة ان التخفيض المتعمد للدولار هو حجر واحد يصطاد عصافير كثيرة، غير ان الحجر ثقيل الي درجة كبيرة بالنسبة لاقتصاديات معظم دول العالم وهو بالغ التأثير في اقتصاد أوروبا الموحدة الوليدة اكثر من غيرها حيث يؤدي الارتفاع الحاد لليورو الي اضعاف فرص تصدير السلع والخدمات الاوروبية الي الولاياتالمتحدة والي الدول الاخري التي تربط عملتها بالدولار، وهذا خطير حاليا وستزداد خطورته في المستقبل اذا ما استمرت الاحوال علي ما هي عليه. الدولار الضعيف يمتد أثره ايضا علي دول شرق آسيا وعلي رأسها الصين حيث يدفع هذه الدول دفعا الي اتخاذ اجراء طالما تملصت من اتخاذه وهو رفع قيمة عملاتها مقابل الدولار وهو مطلب امريكي دائم لم يتم الاستجابة اليه، فلجأت الادارة الاقتصادية الي اللعب بالدولار الضعيف للضغط العملي علي هذه الدول للحد من تدفق وارداتها الرخيصة علي الاسواق الامريكية بل واضعاف فرص منافسة هذه البضائع للسلع الامريكية في اسواق العالم. القصة معقدة وتأثيرها يتجاوز الدول العملاقة المتصارعة اقتصاديا ليمتد الي الدول النامية والفقيرة التي تتحمل موازين مدفوعاتها الهشة تكاليف هذه الحرب في سوق العملات. التطورات المتسارعة والمتعمدة في سوق العملات دعت صندوق النقد الدولي الي اطلاق تحذير قوي الاسبوع الماضي من احتمال انهيار الدولار مشيرا الي ان هذا سوف يمثل نكبة علي النظام المالي العالمي للاسباب السابق ذكرها واسباب اخري كثيرة، ودعا الصندوق الولاياتالمتحدة الي اتخاذ اجراءات عملية وسريعة للحد من العجز في ميزانيتها الذي بلغ 413 مليار دولار والحد من الاقتراض الخارجي الذي بلغ العام الماضي 665 مليار دولار لسد العجز في ميزان المدفوعات الامريكي وزيادة معدل الادخار القومي للحد من اعتمادها علي الخارج في تمويل الاستثمار، وبصفة عامة دعا بيان الصندوق الولاياتالمتحدة الي اتخاذ اجراءات حازمة لمساندة الدولار الضعيف قبل ان يفقد الجميع الثقة فيه ويترنح اقتصاد العالم بعد ذلك. الدولار الضعيف لم يعد قضية اقتصادية بأي حال بل دخل في صميم اللعبة السياسية ولا يكاد يمر اسبوع دون ان يبدي رئيس دولة او مسئول دولي كبير تبرمه من استمرار تدهور العملة الامريكية التي وصلت الآن الي 104 ينات يابانية و33.1 دولار لكل يورو وهي اسعار مخيفة من الناحية الاقتصادية. المشكلة انه رغم التبرم العالمي من تدهور الدولار الا ان ما يمكن عمله من جانب الآخرين ولوقف هذا التدهور لا يزال محدودا ولا ادل علي ذلك من التصريحات الملتهبة التي تصدر بين الحين والآخر من جان كلود تريشيه محافظ البنك المركزي الاوروبي والذي يتوعد في كل مرة ان اوروبا لن تسكت ولكنه عمليا يسكت ويهبط الدولار الي مستويات قياسية جديدة؟!