عندما يبدي الرئيس الفرنسي جاك شيراك قلقه من تدهور سعر الدولار الأمريكي فإن هذا التصريح يعني بلاشك أن مسألة أسعار الصرف باتت قضية سياسية، وعندما يأتي هذا التصريح بعد ساعات من التجديد للرئيس الأمريكي وإدارته المحافظة لولاية ثانية في البيت الأبيض فإن هذا لا يفسر إلا بأن الأوروبيين الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة باتوا مهمومين بسياسات بوش الاقتصادية ومتخوفين من امتداداتها خلال الولاية الثانية وأثرها علي الجميع. وعندما يتزامن هذا التصريح مع تراجع الدولار إلي أقل قيمة له في التاريخ مقابل العملة الأوروبية وسط تكهنات شبه رسمية بأن الأمريكيين يعتزمون ترك عملتهم لمزيد من الهبوط فإن هذا يعني أن المعركة حول أسعار الصرف بين الأمريكيين من جانب وشركائهم التجاريين من جانب آخر قد بدأت أو بالأحري تحددت ولكنها هذه المرة سوف تكون أكثر شدة وعنفاً وسوف تنتقل من أيدي النقديين ورجال الاقتصاد إلي الإدارات السياسية في انحاء العالم. في ثاني أيام التعامل بالأسواق المالية بعد إعلان فوز الرئيس بوش رسمياً حدث أن ارتفعت كل مؤشرات بورصة نيويورك بنسبة تزيد علي 1% وهذا دليل علي أن الشركات الأمريكية والمتعاملين راضون عما آلت إليه نتيجة الانتخابات، وفي نفس اليوم تراجعت العملة الأمريكية ليصبح اليورو ثاني أكبر عملة احتياط في العالم مقوماً ب 1.29.25 دولار وهي أعلي قيمة للعملة الأوروبية منذ نشأتها عام ،2001 وفي نفس الوقت صدرت تصريحات شبه رسمية لأعضاء في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تشير إلي أن هناك حاجة لإجراء مزيد من الخفض علي العملة الأمريكية تصل إلي 20% مما هي عليه الآن أي أن ترتفع قيمة اليورو لما يزيد علي دولار ونصف دولار وهو ضعف قيمة اليورو في منتصف عام 2001! وقبل فهم تأثيرات هذا التلاعب في أسعار الصرف نذكر بتصريح إصدره جان كلود تريشيه محافظ البنك المركزي الأوروبي في فبراير الماضي حذر فيه من أن تدهور الدولار إلي ما دون 1.3 دولار لليورو يعد خطاً أحمر بالنسبة لأوروبا يتعين بعده اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف ارتفاع اليورو ووقف تدهور الدولار.. وبعد هذا التصريح بأيام انزلق اليورو إلي ما دون 1.26 دولار ثم تراجع بعد ذلك ليصل إلي 1.20 دولار قبل أن يعود للارتفاع ليصل إلي ما وصل إليه الآن، وكما هو مفهوم فإن سياسة الدولار القوي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد نيكسون قبل أن ينحو الرئيس بوش منحي آخر منذ منتصف عام 2002 في إطار حزمة من الإجراءات الاقتصادية استهدفت ومازالت تستهدف تنشيط الاقتصاد والتغلب علي الركود الذي بدأ في نهاية عهد الرئيس كلينتون وتدعم بأحداث سبتمبر. ويهدف الأمريكيون وفقاً لخطة بوش الاقتصادية إلي جعل الولاياتالمتحدة أفضل أرض للاستثمار في العالم وخفض سعر الدولار يخدم تحقيق هذا الهدف لأنه يجعل تكلفة الاستثمار في أمريكا أقل من غيرها، كما أنه يساعد علي خفض العجز التجاري المهول الذي تعاني منه الولاياتالمتحدة منذ سنوات طويلة وبات يساوي الآن تقريباً 3.2% من ناتجها الاجمالي كما أنه يساعد كذلك عن طريق خفض الفائدة في خفض عجز الميزانية الضخم لأنه يخفض من تكلفة الاقتراض علي الخزانة باعتبار أن الولاياتالمتحدة هي أكبر دولة مدينة في العالم.. هذه السياسة ظهرت بوادرها بالفعل حيث ارتفع معدل النمو الأمريكي إلي 4.2% وهو ما يزيد علي ضعف النمو المحقق في منطقة اليورو وهو الأضخم من حيث القيمة علي مستوي العالم ومن المتوقع إذا ما استمرت هذه السياسة ان تتضاعف جوائزها الاقتصادية خلال ولاية بوش الثانية وتسمح له بخفض عجز الميزانية إلي النصف وإجراء خفض جذري في العجز التجاري وقبل كل ذلك جذب الاستثمارات من انحاء العالم لتصبح الولاياتالمتحدة بحق جنة الاستثمارات من كل الجنسيات ومتفوقة علي كل الجنسيات. وهذه النقطة بالذات هي التي يرتعد منها شركاء الولاياتالمتحدة وعلي رأسهم الأوروبيون ثم اليابانيون والصينيون بعد ذلك حيث إن حدوث أي خصم في العجز التجاري للولايات المتحدة يعني تصدير العجز إلي الآخرين وأهمهم الأوروبيون والذين يعانون فوق ذلك من همومهم الخاصة الناجمة عن تراجع معدلات النمو التي اقتربت من الصفر في ألمانيا فضلاً عن الأعباء الاقتصادية المترتبة علي توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي بدخول 10 دول جديدة هذا العام، اليورو القوي يقلص صادرات أوروبا ليس فقط للولايات المتحدة ولكن لكل المناطق التي تأخذ الدولار كعملة ارتباط، ويدخل في ذلك الدخول في مناقصات وعمليات إنشائية وخدمية في معظم دول العالم بعد أن أصبحت عروض الشركات الأمريكية أفضل من الناحية النقدية وقبل كل ذلك وبعده فإن اليورو المرتفع يجعل من الاستثمار في أوروبا عملاً شبه مستحيل بالنسبة للأموال المتحركة عبر العالم تبحث عن أفضل فرصة للربح وتتجه بدلاً من ذلك إلي أمريكا بعد خصم حصة الصينيين ودول جنوب شرق آسيا.. إلي حين؟! أخيراً فإن التحرك بين أسعار الصرف خلال الفترة الماضية وبالتأكيد خلال ما هو قادم من أيام تنقصه البراءة والحياد لأنه لا يعكس حقيقة مستويات النمو بين منطقة الدولار ومنطقة اليورو بل هو أقرب إلي التلاعب المخطط له أكثر من كونه تعاملات محايدة ونزيهة وهنا مكمن الخطورة ولهذا السبب قال شيراك ما قاله ومن المتوقع أن تزداد شراسة المعركة حول أسعار الصرف في الأسواق الدولية خلال العام الجديد حيث لا يمكن للأوروبيين وغيرهم الوقوف مكتوفي الأيدي وهم يرون أن تحركات أسعار الصرف تضر نموهم الاقتصادي ورفاهية شعوبهم وتشيع البطالة بين مواطنيهم خلال محاولة الرئيس الأمريكي حل مشكلة البطالة المبالغ فيها في بلاده، إن مشكلة الإدارة الأمريكية ليس في كونها تسعي لتحقيق مصالح الأمريكيين فهذا أمر مشروع بالطبع ولكن مشكلتها الحالية أنها وهي تفعل ذلك تهدر مصالح الآخرين في العالم الحر وفق صيغة توازن المصالح التي طبقت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وهنا مكمن الخطر حيث إن القضية أصبحت سياسة وليست اقتصاداً..