أصبح من المستقر دوليا أن أحوال الاقتصاد الأمريكي لم تعد شأنا أمريكيا بأي حال وإنما هي هم تنشغل به كل الدنيا فالاقتصاد الأمريكي ليس فقط قاطرة الاقتصاد الدولي بل هو محركه ومصدر حيويته أو انكماشه لسنوات قادمة مهما قيل عن متاعب يعاني منها هذا الاقتصاد الضخم الذي تجاوز حجمه العام الماضي 11.3 تريليون دولار بنسبة تصل 23% من جملة الناتج العالمي الاجمالي وبرغم كل ما يقال عن مشكلات تتعلق بعجز التجارة والميزانية المتفاقم إلا أن المؤشرات توضح أن أكبر نمو كمي شهده العالم خلال العام الماضي حدث في السوق الأمريكي ونسبة النمو نفسها لا بأس بها مقارنة بالاقتصاديات الضخمة حيث بلغت 4.2% وهي تعادل أكثر من ضعف نسبة النمو في أوروبا الموحدة التي وصلت بالكاد إلي 2% أما في ألمانيا قاطرة الاقتصاد الأوروبي فقد راوحت مكانها عند الصفر للعام الثاني علي التوالي، وفي هذا السياق يجب أن تقرأ تصريحات ألان جرينسبان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمهندس المخضرم للسياسة النقدية الأمريكية والتي حذر فيها من عواقب وخيمة من جراء تفاقم عجز الميزانية الأمريكية علي الأجل المتوسط.. هذه التصريحات دفعت الدولار إلي الهبوط مقابل اليورو والين بحوالي بنطين في 48 ساعة ولم يشفع للدولار أن نتائج الاحصاء الشهري للوظائف سجلت نموا في الشهر الماضي وهو مؤشر مهم يوضح قوة الأعمال والنشاط الاقتصادي وهو رهان إدارة الرئيس بوش منذ وصل إلي السلطة عام 2000. جرينسبان الذي كان يتحدث أمام لجنة الميزانية في الكونجرس اعترف بأن الاقتصاد الأمريكي حقق أفضل أداء له خلال 5 سنوات ولكنه تخوف من أن تفاقم العجز الذي سيصل مجموعة إلي 1.6 تريليون دولار خلال السنوات الست القادمة من شأنه أن يلقي بظلال سلبية علي الاقتصاد وهذا ما هيج الأسواق. أمريكا كلها مشغولة الآن بمناقشة الميزانية الجديدة التي يبدأ العمل بها في أكتوبر المقبل والتي تحمل عجزا يصل إلي 427 مليار دولار بزيادة 14 مليار دولار عن عجز الميزانية الحالية ومع ذلك فإن العجز لا يتجاوز 3.4% من الناتج الإجمالي.. تقديرات الكونجرس تقول إن العجز سيكون أقل من ذلك حيث لن يتجاوز 394 مليار دولار والخلاف حول ميزانية الحرب علي العراق والتي تدور التكهنات علي أنها ستتراوح بين 40 و50 مليار دولار هذا العام. وكما هو واضح فإن إدارة الرئيس بوش تسعي بقوة لتحميل أطراف أخري الجانب الأعظم من مسئولية هذه الحرب خلال الفترة القادمة ومن بينها العبء المالي ولا شك أن زيارة بوش الأخيرة لأوروبا كانت تصب في هذا الاتجاه ويدل الارتياح الذي أبداه أنه حقق نجاحا في مهمته دفعه للتصفيق لوزيرة خارجيته بعد مؤتمرها الصحفي مع نظيرها الفرنسي.. السيناريو قد يبدو مرتبكا لدي الآخرين لكنه بالنسبة للرئيس الأمريكي وإدارته نري أن الصورة واضحة وكذلك أولوياتها والتي تعطي للنمو الاقتصادي الأولوية القصوي ولو علي حساب الجوانب المالية والنقدية ومفهوم أن العالم كله يدفع جانباً كبيراً من فاتورة تدهور الدولار الذي يبدو أنه اتجاه مريح علي الرغم من التمسك الأمريكي النظري بسياسة الدولار القوي!! وإذا كان العالم كله يدفع فاتورة ارتفاع أسعار النفط وبات يؤثر علي معدلات النمو في الدول سريعة النمو فضلا عن الدول الفقيرة إلا أن الأرباح الهائلة المتولدة عن تلك الارتفاعات تعود في معظمها إلي شركات الإنتاج والبيع وهي أمريكية بنسبة 80% وهذا يخدم النمو الأمريكي وإن تأثرت به شرائح المستهلكين. المسألة الجوهرية في العجز الأمريكي تكمن في أن الميزانية عليها أن تدفع 322 مليار دولار فوائد لحملة سندات الخزانة والمستثمرين الأجانب وذلك بعد أن بلغ الدين العام الأمريكي 4.508 تريليون دولار مقابل 3.339 تريليون في 2001 وهذا هو أكبر دين في العالم الاطلاق ويعني هذا أن معظم عجز الميزانية يذهب سدادا للديون وهذا جانبه السلبي أما جانبه الايجابي فيتعلق بأن أموال العالم تذهب للاستثمار في أمريكا وهذا يخدم هدف النمو الذي يفوق ما عداه من أهداف في أجندة الرئيس بوش.. المشكلة الحقيقية التي تواجه أمريكا حاليا أن بعض المستثمرين بدأوا في التحول عن الدولار للعملات الأخري بعد أن اكتووا بناره خلال العامين الماضيين، وهذا هو التحديد الحقيقي، وقد ألمح إليه جرينسبان في إعادته أمام لجنة الكونجرس وخص بالذكر المستثمرين والدول في الشرق الأوسط ولكنه قلل من مخاطر هذا الاتجاه علي معدل تدفق الاستثمارات النقدية واعدا برفع أسعار الفائدة لمعالجة هذا الأمر.. إذا القضية كلها محسوبة وتضع في اعتبارها مختلف العوامل والسياسة فيها تخدم الاقتصاد، ومهما قيل عن أزمة الاقتصاد الأمريكي في الإعلام فالأرجح أنه سيظل أقوي وأكبر اقتصاد في العالم علي الأجل المنظور.