عندما تقرر دولة الدخول في حرب، فإنها تسعى للفوز، وتخطط كذلك لهزيمة خصم أو أكثر من خصم. وأحياناً يكون الخصم في المعركة معروفاً ومحدداً، وأحياناً أخرى يكون الخصم الحقيقي ليس هو الهدف المباشر، والذي توجه ضده الجيوش وتستنفر في مواجهته وسائل الإعلام. في بعض الحروب، ليس مهماً ماذا ستجني من المعركة عند الفوز؟ الأهم قد يكون ماذا سيخسر عدوك الحقيقي في هذه المعركة، وليس بالضرورة العدو الذي أعلنت الحرب عليه. والمتأمل للحرب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية على العراق، يمكن ان يرى أن صدام حسين أو حتى العراق نفسها ليست وحدها هدف هذه المعركة بالضرورة. لا شك أن عراق صدام حسين كان يؤرق الإدارة الأمريكية، ولكن توقيت الاحتلال وأسلوب القيام به يشكك في أن العراق وحدها كانت محور وسبب هذه الحملة العسكرية. ويرى عدد من المراقبين أن الخصم الحقيقي الذي وجهت ضده هذه الحرب، وفي ذلك التوقيت بالتحديد هو الاتحاد الأوروبي بالأصالة، وخصوصاً وأن الاقتصاد الأوربي بدأ في الأعوام الأخيرة يشكل تهديداً حقيقياً ومؤثراً ومؤلماً للاقتصاد الأمريكي. إن المراكز الفكرية الموالية للتيار اليميني المحافظ قد نصحت الإدارات الأمريكية في العقد الماضي بالتركيز على الجوانب الاقتصادية في علاقة أمريكا السياسية بالعالم. فالاقتصاد يحكم عالم اليوم، وليس السياسة أو القوة العسكرية رغم أهميتهما في تحقيق الهيمنه. وكثرت الكتابات الأمريكية التي تنصح علناً بتفكيك القوة الاقتصادية لأي كيان يمكن أن يشكل منافساً لأمريكا بأي صورة من الصور. ولذلك كانت أمريكا وراء الانهيار الاقتصادي المفاجيء لعدد من دول جنوب شرق آسيا [النمور الآسيوية] في نهاية القرن الماضي، ولم تخف الإدارات الأمريكية فخرها بذلك بطرق غير مباشرة. والخطر القادم اقتصادياً في عالم القرن الحادي والعشرين هو الاتحاد الأوربي، ولذلك فلابد لصانع القرار الأمريكي من التعامل مع ذلك، حتى ولو كان مصدر الخطر المتوقع صديقاً أو حليفاً أمريكياً. إن الاتحاد الأوربي قد زاد 10 دول دفعة واحدة في مايو الماضي، وأصبح الاقتصاد الأوربي 9.6 تريليون دولار لأوربا التي ستتكون من 450 مليون نسمة في مقابل الاقتصاد الأمريكي الذي يصل إلى 10.5 تريليون دولار وقوة سكانية لا تتجاوز 290 مليون نسمة. والاقتصاد الأوربي يتجه نحو مزيد من النمو مع توقع دخول الدول الإسكندنافية إليه، وعاجلاً أو آجلاً ستقرر بريطانيا أيضاً الانضمام إلى هذا الاتحاد، إضافة إلى دول الكتلة الشرقية التي تسعى بقوة للإنضمام لهذا الكيان الذي سيضم 800 مليون نسمة ويجمع أكثر من 57 دولة في نهاية العقدين القادمين. فهل هناك ما يثبت أن الخصم الحقيقي في احتلال العراق هو الاتحاد الأوربي وليس الشرق الأوسط ... لقد كتب الكثيرون أن هذه الحرب هى "حرب النفط" وأن هدف أمريكا الأول هو احتلال العراق لنهب ثرواته النفطية، ولا شك في صحة ذلك إلى حد ما، ولكن هدف الاحتلال الحقيقي قد لا يكون فقط الحصول على النفط العراقي، ولكن الأهم هو منع الغير من الوصول إليه، وفي هذه الحالة .. منع السيطرة الأوروبية على النفط العراقي. لقد قرر العراق في السادس من نوفمبر عام 2000 أن يحول تعاملاته النقدية الخاصة ببيع النفط من الدولار إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو. وارتفعت منذ ذلك الحين قيمة اليورو في مقابل الدولار إلى أكثر من20%، وتساءلت الدوائر الاقتصادية الأمريكية في ذلك الوقت: ماذا لو حولت منظمة" الأوبك" تعاملاتها النقدية الخاصة ببيع النفط إلى اليورو بدلاً من الدولار؟ وهدد المحللون الاقتصاديون بوقوع كارثة اقتصادية في أمريكا إن حدث ذلك فالدولار يستمد جزءاً كبيراً من قوته لأنه العملة التي يتم بها تبادل أهم السلع العالمية. وإذا انتقل العالم- اقتداء بالعراق في ذلك الوقت- إلى استخدام اليورو بدلاً من الدولار، فستقل الحاجه العالمية إلى الاحتفاظ بالدولار في البنوك المركزية العالمية مما سيخفض من سعره وقوته في مقابل اليورو. لقد بقى الدولار الأمريكي متربعاً على ساحة التعاملات المالية العالمية منذ عام 1945، وحتى نهاية القرن الماضي. ووصل حجم التعامل العالمي بالدولار إلى أكثر من80% من التعاملات المالية العالمية. أما الأعوام الأخيرة التي شهدت توسع الإتحاد الأوروبي فقد أظهرت أن اليورو قد بدأ يكتسب قوة مالية وعالمية أصبحت مصدر إزعاج دائم للاقتصاد الأمريكي. إن الاقتصاد الأوربي لا يعاني من الديون التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي والتي تصل إلى أكثر من 60% من الناتج القومي الأمريكي. ونسبة مشاركة أوربا في التبادل التجاري العالمي أكثر من نسبه مشاركة أمريكا في ذلك. وكذلك فإن الاحتياج الأوربي للنفط يزيد عن الاحتياج الأمريكي، ولذلك فإن الدور العالمي الذي بدأ يظهر لليورو أصبح يهدد أمريكا ليس اقتصادياً فقط، وإنما على مستوى التأثير السياسي أيضاً. وليس من المتصور أن تبقى أمريكا مكتوفة الأيدي تاركة أوربا تنمو وتستقل عن الكيان الأمريكي، بل وتهدده في أهم مفصل من مفاصله المدنية وهو المفصل الإقتصادي. ولذلك فإن احتلال العراق – في نظر المراقبين - ليس مشروعاً للهيمنة على الشرق الأوسط فقط، وإنما مشروعاً لإضعاف المنافس الأوربي القادم أيضاً. ولعل هذا يفسر سبب المقاومة الأوربية الشرسة للحملة الأمريكية على احتلال العراق، ولعله يفسر أيضاً الرفض أو التباطؤ الأمريكي في إشراك الدول الأوربية في التعاقدات الاقتصادية الخاصة بإعادة إعمار العراق. إن السياسة الخارجية الأمريكية لا تعترف بالأصدقاء، وإنما بالمصالح الوقتية. ليس هناك أصدقاء دائمين، أو أعداء دائمين.المهم هو مصلحة أمريكا ومنافع التيارات السياسية التي تتعاقب على حكمها. ولذلك سيشهد العالم جهوداً أمريكية منظمة لتخريب البنى التحتية الإقتصادية للدول والكيانات المنافسة، أياً كانت هذه الدول، وستسعي أمريكا إلى إيجاد أنظمة سياسية تابعة أو محايدة في أغلب مناطق العالم، وإن لزم الأمر إعلان الحرب فلا مفر من ذلك، ولا حرج أيضاً. فأمريكا لا تنفق على التسلح 400 مليار دولار سنوياً من أجل التباهي بالقوة، ولكن من أجل استخدامها لردع المخالفين وتحجيم منافسي المستقبل أيضاً. المصدر مفكرة الاسلام