يعيش العالم الآن فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية, التي فاجأت العالم في الربع الأخير من عام8002, وقد اتخذت الحكومات الغربية آنذاك العديد من الإجراءات العاجلة لإنقاذ العالم من خطر انهيار النظام المالي, فاعتمدت الحكومة الأمريكية. وكذا العديد من حكومات أوروبا, حزمات مالية متنوعة للتدخل السريع لحماية المؤسسات المالية. وقد نجحت هذه الإجراءات في وقف عمليات الاستنزاف التي تعرضت لها الأسواق المالية, ورغم تراجع مخاطر انهيار المؤسسات المالية واستعادتها لكثير من عناصر التوازن, فإن أداء الاقتصاد الحقيقي مازال هشا في معظم الدول الغربية, فانخفضت معدلات النمو الاقتصادي كما تزايدت معدلات البطالة بها, في نفس الوقت الذي استعادت بعض الاقتصاديات البازغة مثل الصين والهند حيويتها بسرعة. ورغم ذلك فما زال الاقتصاد الغربي خاصة في الولاياتالمتحدة واوروبا يعيش فترة كساد وانكماش, وبلغ حجم البطالة في الولاياتالمتحدة معدلات مرتفعة تقترب من01%, مما اثار موجة من الاستياء الشعبي علي الحكومة, الأمر الذي انعكس علي انتخابات التجديد التشريعي في الكونجرس الامريكي ومع نجاح الحزب الجمهوري, وبروز جناحه المتشدد الأكثر تطرفا والمتمثل فيما يعرف بحزب حفلة الشاي الذي يعارض أي زيادة في الإنفاق الحكومي أو توسع في دور الحكومة في الحياة الاقتصادية, فإن الخيارات المتاحة امام ادارة اوباما لم تعد رحبة. وفي هذا المناخ العام من السخط الشعبي, وفوز الجمهوريين في الانتخابات, فإن حرية الحركة امام الحكومة الامريكية تبقي مقيدة ومحدودة, ولم يعد امامها فيما يبدو الا الاعتماد علي السياسة النقدية التي يضعها وينفذها بنك الاحتياط الفيدرالي( البنك المركزي), وهي سياسة تتراوح بين تخفيض أسعار الفائدة وضخ كميات جديدة من النقود في الاسواق من خلال البنك المركزي. والسؤال هل تكفي هذه السياسة النقدية وحدها لإعادة تنشيط الاقتصاد العالمي؟ وهو سؤال جديد قديم, سبق أن واجهه العالم قبل ثمانين عاما في إثر أزمة الثلاثينيات من القرن الماضي, وكان من نتائجها ظهور الاقتصادي الانجليزي كينز, الذي أكد ان السياسة النقدية وحدها غير كافية, وجاءت حكومة روزفلت في أمريكا في ذلك الوقت وأخذت بسياسة فعالة للإنفاق الحكومي فيما عرف آنذاك بالسياسة الجديدةNewDeal, بحيث جاءت تطبيقا بشكل عفوي غير مقصود لآراء كينز التي نشرها في ذلك الوقت. وقد أدت تلك السياسة في الإنفاق إلي إعادة الانتعاش إلي الاقتصاد الأمريكي ومن ورائه الاقتصاد العالمي. وفي ظل هذا المناخ السياسي الجديد في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومع صعوبة التوسع في دور الدولة الاقتصادي, فإنه لم يعد أمام الإدارة الأمريكية إلا الاعتماد علي أدوات السياسة النقدية, ويبدو أن الخطة التي يتبناها بنك الاحتياط الفيدرالي, وهي ما يطلق عليها خطة التيسير الكمي, هي أقصي ما يمكن تحقيقه في هذه الظروف من أجل تحفيز وتنشيط الاقتصاد الأمريكي, فبعد أن خفض البنك المركزي الأمريكي أسعار فائدته إلي ما يقرب من الصفر, لم يعد أمامه من سبيل إلا طرح كميات جديدة من النقود في الأسواق, وهذا هو جوهر خطة التيسير الكمي. فكيف يتم ضخ الأموال في الأسواق؟ سيتم ذلك عن طريق برنامج للبنك المركزي الأمريكي بشراء سندات الخزانة الأمريكية متوسطة الأجل لمدة خمس أو ست سنوات من حائزيها في الأسواق المالية المختلفة, وبذلك يضخ البنك أموالا جديدة في الأسواق. ومعني ذلك أن عجز الميزانية الأمريكية الذي كان يمول في أغلبه عن طريق الأسواق المالية سوف يمول الآن مباشرة من البنك المركزي الأمريكي. ولكن ما هو الفارق بين الأمرين؟ الفارق كبير. كيف؟ عندما تواجه الحكومات عجزا في الميزانية, فإنها تطرح أذون خزانة( قصيرة الأجل) أو سندات حكومية( متوسطة وطويلة الأجل) في الأسواق المالية, وتستخدم حصيلة البيع لتمويل عجز الميزانية, ولكن الأمر يختلف فيما إذا كان مشتري هذه الأذون والسندات هم المستثمرين في الأسواق المالية خاصة المؤسسات المالية( بنوك, صناديق ادخار, شركات تأمين...), أم كان المشتري هو البنك المركزي. فإذا كان المشتري هو من المتعاملين في الأسواق المالية, فمعني ذلك أن هؤلاء المشترين يستخدمون جزءا من مدخراتهم للتوظيف في أذون وسندات الحكومة, وهكذا فعملية شراء هذه الأوراق المالية الحكومية من الأسواق المالية تعني تمويل عجز الميزانية, من مدخرات حقيقية في الاقتصاد العالمي. فهنا نجد عجزا في الميزانية أي نوعا من الادخار السلبي في مالية الحكومة الأمريكية, ولكن هذا العجز يمول بجزء من مدخرات حقيقية للأفراد والمؤسسات المالية في أمريكيا أو الخارج. فالحكومة قد تنفق اكثر من ايراداتها, ولكن المشترين لهذه الاوراق الحكومية يمولون هذه العملية من مدخراتهم الحقيقية, وبالتالي تقل الأموال المتاحة لهم للإنفاق في غير هذا المجال. أما في حالة قيام البنك المركزي بشراء أذون وسندات الخزانة, فإن البنك المركزي يمول هذه العملية بما يصدره من نقود جديدة والحصيلة النهائية لتدخل البنك المركزي هي زيادة عرض النقود المتداولة. من هنا يمكن ان تكون لهذا الاسلوب آثار تضخمية في المستقبل, وكثيرا ما يقال إن تمويل عجز الحكومة عن طريق الأسواق المالية يعني مزاحمة الحكومة للمستثمرين في الحصول علي مدخرات الافراد والمؤسسات, وهو أمر غير وارد علي اي الاحوال في ظروف الكساد الذي يتراخي فيه النشاط الاقتصادي الخاص, ولذلك يأتي العجز المالي الحكومي وزيادة الانفاق لتعويض النقص في الطلب الخاص في أوقات الكساد. كذلك يلاحظ ان الاستثمار في اذون وسندات الحكومة الامريكية لا يقتصر علي المستثمرين من الامريكيين وحدهم, بل الجزء الاكبر من حاملي هذه الاوراق المالية هم الحكومات والهيئات الاجنبية, خاصة من دول الفائض سواء في اليابان او الصين او المانيا او الدول النفطية. ومن هنا كثيرا ما يقال ان نقص المدخرات الامريكية كان يعوض عن طريق فائض المدخرات في دول الفائض الاجنبية. والآن, فإن خطة البنك المركزي الأمريكي هي شراء ما يقرب من006 بليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية من حائزيها, وبالتالي ضخ مقابل لها من الدولارات الجديدة في الأسواق, ورغم أن مسئولي البنك المركزي الأمريكي يؤكدون أن التركيز سوف يكون علي الشراء من داخل السوق الأمريكية وليس من الحائزين لهذه الأوراق في الخارج, فنظرا لأن معظم هذه الأوراق هي في يد الحائزين من الأجانب من دول الفائض, فمن غير الطبيعي أن ينحصر أثر هذه العمليات علي السوق المحلية الأمريكية. وهكذا تنطوي الخطة الأمريكية في جوهرها علي ضخ دولارات جديدة في الأسواق المالية العالمية, وليس من المستبعد أن توظف هذه الأموال الجديدة في الأسواق وبما يهدد بظهور فقاعة مالية جديدة, وقد بدأت بعض الدوائر في دول الفائض في ألمانيا والصين والبرازيل وغيرها في التعبير عن بعض مظاهر القلق علي مستقبل التضخم في العالم, وربما علي أسعار الدولار في المستقبل, وبما قد يعني أن حرب العملات قد بدأت. وبطبيعة الأحوال, فإن هذه المخاوف لم تغب عن واضعي السياسة الأمريكية, ولكنهم يعتقدون أنه في الظروف الحالية وحيث يغلب الكساد, فإن مخاطر التضخم تبدو مستبعدة, وأنه قبل ظهور أي مظاهر تضخمية, فإن الاقتصاد العالمي خاصة الأمريكي سيبدأ مرحلة التعافي وارتفاع معدلات النمو وتراجع البطالة, وحينذاك فقط يمكن وضع خطط جديدة لامتصاص الزيادة في السيولة التي طرحت في الأسواق من خلال هذا البرنامج والعودة إلي الأوضاع الطبيعية, وذلك بإعادة طرح سندات الخزانة الأمريكية علي الأسواق المالية. وبصرف النظر عن مخاطر التضخم, فهل من المتوقع أن تنجح هذه السياسة الجديدة في إنعاش الاقتصاد العالمي مع مزيد من ضخ السيولة واستمرار أسعار الفائدة المنخفضة؟ هذا هو السؤال. وهو سؤال سبق أن واجهه العالم خلال الأزمة المالية العالمية في الثلاثينيات من القرن الماضي, وجاء كينز مؤكدا أن ضخ السيولة وحده في الاقتصاد أو انخفاض أسعار الفائدة بشكل كبير, كل هذا غير كاف لاستعادة النشاط الاقتصادي, ما لم يصاحب ذلك استعادة الثقة والتفاؤل بالمستقبل, فالمطلوب هو استعادة الثقة وليس مجرد زيادة السيولة أو انخفاض أسعار الفائدة, فالسيولة الزائدة لا تتحول بالضرورة إلي استثمارات, وإنما قد تختفي فيما أطلق عليه مصيدة السيولة, وكانت هذه هي المشكلة التي حاول كينز أن يجد لها مخرجا, حيث جاءت إجابته واضحة, وهي أن السياسة النقدية وحدها غير كافية ولابد أن تستكمل بسياسة مالية يقظة وفعالة, فهل نحن بحاجة إلي كينز جديد؟ ربما. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي