إذا كانت هناك نية لموجة أخري للإصلاح الاقتصادي في مصر فهذا وقتها; فهذا وقت للتقدم وليس للتراجع, وللنظر للثروة والقوة وليس للفقر والضعف. والأهم من ذلك كله أن ذلك هو وقت للسرعة والحسم وليس للتردد والخوف وزمن للحزم والعزم, وليس زمنا للانتظار والبحث عما سوف يأتي لنا وإنما ما سوف نذهب إليه. هو وقت لكي نتعلم من التجارب الماضية, وأهمها تجربة الإصلاح الاقتصادي المصرية التي استمرت علي مدي الخمسة والثلاثين عاما الماضية, والتي ولدت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه إصلاحات اقتصادية أخري في دول عديدة مثل الصين وماليزيا وإندونيسيا وتركيا وكوريا الجنوبية وغيرها من النمور والفهود ولكن كثيرا منها سبقنا, حتي من جاء بعدنا إلي طريق الإصلاح مثل الهند ودول أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية فقد قفز معظمهما إلي الأمام بينما بقينا نحن دائما في المنتصف من الترتيب العالمي أو قربه لأننا نوزع الثروة قبل أن نولدها, وكلما ننجح خطوتين إلي الأمام كان هناك دائما من يراها كارثة تستدعي التراجع إلي الخلف خطوة علي الأقل. المسألة ببساطة أنه لم يعد في الوقت متسع للتردد التاريخي, وآخر موجات الإصلاح الاقتصادي كانت أكثر نجاحا مما سبقها, حتي الآن, ورغم جهود كثيرة في المعارضة وداخل الحزب الوطني, فإن شعلة الإصلاح لا تزال مشتعلة وهناك في السلطة السياسية من هم علي استعداد للمضي في الطريق. والفرصة سانحة كما لم تسنح من قبل, فكما توقع العقلاء فقد أخذت الأزمة الاقتصادية العالمية دورتها, ولم تتحول إلي كساد شامل كما حدث خلال الثلاثينيات, وبعد عامين ونصف عام من الأزمة, ومع مطلع العالم الجديد فإن العالم كله يبدو علي شفا انطلاقة اقتصادية كبري علينا أن نكون جزءا منها. أسباب الانطلاقة يمكن حسابها: أولا كانت الإدارة العالمية للأزمة تليق بأزمة عالمية فكانت خطط تحفيز الاقتصاديات المختلفة وبتناغم من خلال مجموعة العشرين التي برزت كأهم مؤسسات التنظيم للاقتصاد العالمي. وثانيا أن الدول الكبري, والاقتصاديات العظمي تصرفت بمسئولية, وعندما سقطت بعض الدول إلي هاوية الإفلاس كان هناك من هو علي استعداد للأخذ بيدها بشرط أن تكون مستعدة لتجرع الدواء المر للإصلاح. وثالثها, أن الأزمات الاقتصادية الكبري دائما تحل بدخول مستهلكين ومنتجين جدد إلي السوق العالمية وهو ما حدث في كل دول العالم عندما جري التوجه إلي السوق المحلية لاستنفار فرصه للإنتاج وحاجاته للاستهلاك. ورابعها, أن الثورة التكنولوجية العظمي استمرت في انطلاقتها بلا كلل ولا ملل وظلت تدهش العالم بما تستطيع أن تنتجه في جميع المجالات. كانت البداية التي حافظت علي الاقتصاد العالمي من الانهيار الكامل موجودة في الصين والدول الآسيوية, ودول الاقتصادات الناشئة التي استمرت في النمو رغم الأزمة العالمية الطاحنة, فقد أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد علي مستوي العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية, حيث بلغت قيمة الاقتصاد الصيني5.7 تريليون دولار, متخطيا بذلك الاقتصاد الياباني الذي وصلت قيمته إلي5.2 تريليون دولار خلال الربع الثاني من عام.2010 فيما قال البنك المركزي في سنغافورة إن الاقتصاد نما خلال الربع الثاني من عام2010 بمعدل6.1% مقارنة بالفترة نفسها من عام2009, ورجح الخبراء الاقتصاديون أن يتجاوز نمو الاقتصاد في الربع الأخير من العام حاجز ال6%. أما كوريا الجنوبية فكانت من أسرع الدول في العالم التي تعافت من تداعيات الأزمة العالمية, وقد حقق الاقتصاد الكوري الجنوبي نموا بنسبة1.8% خلال الربع الأول من عام2010, وذلك علي خلفية الخطوات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة ومن بينها تبني برامج لتحفيز الاقتصاد. أما بالنسبة للدول الصاعدة, فقد أعلنت الحكومة الهندية أنها تطمح في تحقيق نمو اقتصادي يتجاوز10% خلال العامين القادمين علي خلفية بروز مؤشرات توحي بنجاح الهند في التخلص من مرحلة الانكماش الاقتصادي التي سببتها الأزمة العالمية. وقد نما الاقتصاد الهندي, وهو الثاني بعد نظيره الصيني نموا علي مستوي العالم, في الربع الثاني من عام2010 بنسبة8.8%, وظهرت توقعات بإمكانية وصوله إلي9%, وهو المعدل الذي حققه قبل مرحلة الانكماش. في حين نجح الاقتصاد البرازيلي في تحقيق معدل نمو كان الأكبر منذ14 عاما, وهو الاقتصاد الأكبر علي مستوي أمريكا اللاتينية والثامن علي مستوي العالم, وقد نما الاقتصاد بنسبة2.7% خلال الربع الأول من عام2010. بينما شهد الاقتصاد الروسي نموا غير متوقع, وصلت نسبته إلي3.9% في أكتوبر2010 مقارنة بالفترة نفسها من عام2009, وبزيادة مقدارها0.9% علي ما حققه في شهر سبتمبر2010. كانت هذه الدول هي التي أبقت الجذوة مشتعلة في الاقتصاد العالمي حتي لحقت بها أخيرا الولاياتالمتحدة وأوروبا. فبعد الخروج من فترة الركود منذ نحو18 شهرا, دفعت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية العديد من الخبراء وواضعي السياسة إلي إبداء نظرة تفاؤلية تجاه حدوث انتعاش في العام الجديد. ففي حين تشهد الطلبات المقدمة إلي المصانع والإنتاج الصناعي ومبيعات التجزئة وغيرها نموا ملحوظا, تنخفض طلبات الحصول علي إعانات بطالة. كما أن التسوية التي توصل إليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع الكونجرس الأمريكي والتي تقضي بخفض الضرائب بمقدار858 مليار دولار, من شأنها ضخ مزيد من السيولة النقدية لدي المستهلكين, وذلك عن طريق خفض الضرائب علي الدخل بشكل مؤقت إلي جانب مد تأمين البطالة للعاطلين عن العمل فترة طويلة. وتحاول هذه الخطوات تحفيز تعافي الاقتصاد من تداعيات الأزمة العالمية من خلال إقناع الشركات بعدم التردد في الاستثمار في المشروعات من خلال تقديم حوافز للاستثمارات في مجال الأعمال. ونتيجة هذه الإجراءات شهد الناتج المحلي الإجمالي نموا بنسبة سنوية تقدر ب3.7% خلال الربع الأول من عام2010, ورغم أنه انخفض في الربع الثاني إلي1.7%, إلا أنه عاد للارتفاع من جديد خلال الربع الثالث إلي2.6%. ويرجح بعض الخبراء أن يشهد الاقتصاد نموا بمعدل سنوي يصل إلي3% خلال الربع الأخير من العام المنصرم, فيما أبدت بنك جولدمان ساكس توقعات متفائلة بأن يصل إلي4% خلال عام2011, وعلي الصعيد الأوروبي, نجحت العديد من الدول الأوروبية الكبري في التخلص من فترة الانكماش التي واجهتها, مثل بريطانيا التي اتخذت حكومتها إجراءات مثل خفض نسبة الإنفاق العام بهدف خفض العجز في الموازنة, وتمكن الاقتصاد البريطاني من تسجيل نمو معدله1.2% وذلك خلال الربع الثاني من عام2010, فيما تمكن قطاع الإنشاءات من تحقيق نمو بواقع8.5% خلال الفترة نفسها, وهي أكبر نسبة نمو فصلي منذ عام2001, فيما نما الاقتصاد الألماني, حسب ما أعلن مكتب الإحصاء الاتحادي, بنسبة2.2% خلال الربع الثاني من عام2010, وقد دفع ارتفاع معدل نمو الاقتصاد الألماني المعهد الألماني لأبحاث الاقتصاد إلي زيادة ترجيحاته فيما يتعلق بالنمو من1.7% إلي1.9% خلال عام2010, كما دفع نمو الاقتصاد الألماني الاتحاد الأوروبي إلي تحقيق معدل نمو غير متوقع حيث نما اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة1% في الربع الثاني من عام2010, فيما حققت فرنسا نموا نسبته0.6%, وإيطاليا0.4%, بينما حققت كل من أسبانيا والبرتغال نموا هامشيا وصل إلي0.2%. وأبدت المفوضية الأوروبية توقعات متفائلة بشأن نمو اقتصادات الدول الأوروبية, حيث رجحت في سبتمبر2010 أن يتحقق نمو بنسبة1.8% في عام2010, وهو ما يزيد علي تقديرات سابقة رجحت أن يصل النمو إلي1% فقط, ورجحت تحقيق نمو في منطقة اليورو بنسبة1.7%, بعد أن كانت ترجح نسبة0.9%. كما توقعت أن تصل نسبة التضخم إلي1.8% في دول الاتحاد الأوروبي, وإلي1.4% في دول منطقة اليورو. لكن المعضلة التي يبدو أن كلا من الولاياتالمتحدة وأوروبا توجهانها تتمثل في استمرار معدلات عالية من البطالة. فقد وصلت البطالة في أمريكا إلي9.6%, وفي شهر سبتمبر2010, تم فقد95 ألف وظيفة في الولاياتالمتحدة,. ورغم حالة التعافي التي تبدو عليها اقتصادات الدول الأوروبية, إلا أن مشكلة البطالة ما زالت باقية, فوفقا لتقرير صادر عن المفوضية الأوروبية, فقدت دول الاتحاد الأوروبي نحو4.6 مليون وظيفة خلال الشهور التسعة الأولي من عام2009. ولكن مثل هذه الحالة من استمرار معدلات عالية من البطالة لا ينبغي لها أن تقلل من قوة الاندفاع الجارية في الاقتصاد العالمي لأنه من الطبيعي أن تركز أولي موجات استعادة النمو علي الاستغلال الأمثل لقوة العمل الحالية, فضلا عن أن التكنولوجيات الجديدة عادة ما تحتاج وقتا لاستيعابها من قبل الواقعين في البطالة. كذلك فإن طاقات الخروج من الأزمة فيها من العنفوان ما سوف يسرع من زمن التغلب علي معدلات البطالة العالمية خاصة بعد إضافة دول أخري إلي قائمة المنتجين والمستهلكين في العالم. وقد وضعت مجلة الإيكونوميست في تقرير أخير لها قائمة تتضمن6 دول ناشئة توقعت أن تشهد معدلات نمو عالية خلال الأعوام العشرة القادمة, وهي: مصر, وجنوب أفريقيا, وفيتنام, وكولومبيا, وإندونيسيا, وتركيا. وعددت الأسباب التي أهلت هذه الدول للدخول في هذه القائمة ومنها وجود أنظمة مالية مستقرة وإيجابية, واقتصادات متنوعة, وعدم وجود اختلالات كبيرة في الميزان التجاري وعدم وجود ارتفاعات كبيرة في معدلات التضخم. فهل نستغل الفرصة هذه المرة؟!. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد