ردا علي سؤال من الزميل المتألق محمود سعد عن مكتشف حجر رشيد أجاب النجم اللامع والمحبوب فاروق الفيشاوي: إنه شامبليون. واستطرد قائلا بسرعة وثقة: أن ذلك حدث إبان الحملة الفرنسية علي مصر. وعلي الفور قام محمود سعد بمنح الفيشاوي درجة النجاح لتوصله إلي الإجابة "الصحيحة" وأنا أعرف بالطبع أن برنامج زميلنا محمود سعد "خفيف" وترفيهي وليس برنامجا علميا ومع ذلك فإنه لا مناص من الاعتراف بأن هذه النوعية من البرامج الخفيفة - وربما بسبب أنها خفيفة وترفيهية - تساهم بدور لا يستهان به في تشكيل الرأي العام وترويج المعلومات والأفكار. فما بالك والبرنامج الذي نتحدث عنه يقدمه صحفي موهوب اختطفه التليفزيون فحقق نجاحا سريعا وكبيرا أكسبه شعبية كاسحة وبخاصة في أوساط الشباب. وعندما يستضيف "المذيع المهضوم" محمود سعد نجما لامعا ومحبوبا بحجم الممثل العبقري فاروق الفيشاوي فلنا أن نتوقع أن يكون التأثير مضاعفا، وأن يكون لكل كلمة ينطق بها هذان النجمان مصداقية كبيرة في أوساط الشباب. ولهذا بالضبط.. فإنني انزعجت من تمرير حكاية شامبليون والحملة الفرنسية وحجر رشيد بهذه البساطة علي مائدة التسالي الرمضانية بعد تخمة الافطار وتوقف العقل الجمعي للعرب عن التفكير في أي شيء باستثناء حل فوازير المسلسلات والمقالب التليفزيونية. ويزيد من هذا الانزعاج أن نفس الموضوع يلفه قدر كبير من الالتباس حتي في المناهج التعليمية. وحقيقة الأمر أن "منشور منف" - المشهور باسم حجر رشيد - بمثابة وثيقة كتبها كهنة مصر القديمة في العهد البطلمي بمناسبة تنصيب بطليموس الخامس ملكا علي مصر فحفروا مرسوم ولايته علي لوحة من البازلت الأسود في 27 مارس عام 192 قبل الميلاد. وقد اشتملت الوثيقة علي ثلاثة نصوص: النص الأول مكتوب باهليروغليفية وهو نص مبور من ثلثيه تقريبا. والنص الثاني مكتوب بالديموطيقية، أي الكتابة الشعبية في مصر القديمة وهي كتابة ظهرت قبل 650 عاما من الميلاد وكانت تستخدم للمراسلات الجارية وآخر مراحل تطورها كانت اللغة القبطية التي كتبت منذ القرن الثامن الميلادي بحروف يونانية بالاضافة إلي سبع حركات صوتية غير موجودة في اليونانية أخذت من الديموطيقية. أما النص الثالث فكان يحتوي علي 54 سطرا مكتوبة باللغة اليونانية القديمة. المهم.. أنه بعد انتهاء احتفالات تنصيب الملك بطليموس الخامس في منف اجتمع الكهنة المصريون من مختلف الاقاليم المصرية ببلدة "كانوب" شرقي الاسكندرية، وهي نفسها "أبو قير" الحالية، حيث كرموا الملك الجديد وسلموه الوثيقة التي تحدثنا عنها وهي "منشور منف" الذي اشتهر بعد ذلك باسم حجر رشيد. وقد اعتبر الكهنة تتويج الملك حسب طقوسهم الدينية نصرا عظيما وبالتالي كانوا يتعاملون مع بطليموس الخامس علي أنه فرعون جديد للبلاد وليس ملكا محتلا!! وعليه.. احتفظ بطليموس الخامس بهذه الوثيقة المهمة بأرشيف المملكة البطلمية بمصر ولسبب غير معلوم تم نقل الحجر - الوثيقة إلي مدينة رشيد، ربما لأن المخازن الملكية كانت موجودة بها آنذاك، أو ربما سرقت بسبب ضغائن أو إحن. وأيا كان السبب فإنها ظلت نسيا منسيا حتي اكتشفها ضابط فرنسي وليس شامبليون وهذا الضابط كان مثقفا علي ما يبدو لأنه استشعر أهمية الحجر فأوصي الحملة الفرنسية برشيد أن تهتم بتوصيله إلي نابليون شخصيا، الذي سلمه بدوره إلي العلماء المرافقين للحملة الفرنسية بعدها بأقل من عامين استسلم الجيش الفرنسي عام 1801 للقوات الانجليزية الغازية لمصر وكانت هزيمة الفرنسيين مشينة وكانت شروط استسلامهم مذلة، والعجيب أنه كان من بينها شرط بالغ الغرابة هو أن يسلم الفرنسيون المهزومون جميع ما بحوزتهم من آثار مصرية منهوبة إلي البريطانيين المنتصرين! وكان حجر رشيد من بين هذه الآثار. وهذا يفسر وجود حجر رشيد في المتحف البريطاني في لندن وليس في متحف اللوفر في باريس رغم أن الذي عثر عليه ضابط فرنسي. وهذا يعني أيضا أن كل علاقة الحجر بالحملة الفرنسية هي عثور أحد ضباطها عليه دون أن يتمكن العلماء المصاحبون لها من فك شفرته. لكن بعد انتقال الحجر المحير إلي المتحف البريطاني في لندن نشب سباق من نوع آخر بين الفرنسيين والانجليز علي كشف أسراره. وكان السباق بين البريطاني توماس يونج والفرنسي جان فرانسوا شامبليون وقد استطاع الأخير أن يثأر للفرنسيين وأن يعلن للعالم فك طلاسم "منشور منف" عام 1822. وظل هذا الاعتقاد شائعا حتي عهد قريب إلي أن كشف روبن ماكي المحرر العلمي لصحيفة الأوبزيرفر البريطانية النقاب عن توصل الباحث المصري الدكتور عكاشة الدالي بالمعهد الاركيولوجي في جامعة لندن إلي براهين قوية تفيد أن عالما عراقيا سبق شامبليون بما يقارب الألف عام في فك رموز الهيروغليفية.