لا يمكن أن يمر نبأ توقيع الصين وايران اتفاقا مبدئيا لاستثمار 70 مليار دولار في حقول الغاز الايراني دون فهم أسبابه وتداعياته التي لا تقتصر فقط علي الجوانب التقنية برغم اهميتها وانما تمتد ايضا لخدمة سياقات استراتيجية وسياسية في ظل عالم ملتهب بفعل الحروب والاطماع وفي القلب منها الثروة البترولية الناضبة التي تعد المورد الرئيسي والاساسي للطاقة في العالم لمعظم القرن الحالي برغم أن كل كلام يقال عن تطوير الموارد البديلة ودعاوي امريكية سياسية ودعائية تتحدث عن الاستغناء عن البترول عن طريق تنمية الطاقة البديلة. في تقرير وكالة الطاقة الدولية الذي صدر الاسبوع الماضي عدد من المؤشرات التقنية التي تكشف كذب الدعاوي المتعلقة بالاستغناء او الحد من دور البترول كمصدر اساسي للطاقة وضمن مؤشرات كثيرة تناولها التقرير ذكر ان الطلب علي البترول سيرتفع بحلول عام 2030 بنسبة 62% ليصل الاستهلاك العالمي الي 38 مليار طن سنويا.. الاهم ان ثلثي الطلب سوف يأتي من الدول النامية وان ربع الطلب العالمي عند هذا التاريخ سوف يأتي من الصين لتلبية احتياجاتها التنموية المتسارعة، اما الاكثر اهمية فان التقرير الذي تعده الوكالة التي تعمل لحساب الدول الصناعية ذكر بوضوح ان ثلثا المعروض البترولي سوف يأتي من منطقة الشرق الاوسط التي تقدم الان حوالي ثلث المعروض العالمي من البترول، وبهذا فان الاهمية الاستراتيجية للشرق الاوسط سوف تزداد تعاظما بحلول عام 2030 علي عكس ما تروج له البرامج السياسية الدعائية التي نعيش في ظلها هذه الايام لاسباب مفهومة.. وكالة الطاقة الدولية التي تضع الخريطة المستقبلية لموارد الطاقة في العالم وحجم الطلب عليها تقدم في الوقت نفسه اجابات تقنية للاوضاع السياسية التي يعيشها العالم والشرق الاوسط اليوم، فاذا كانت الولاياتالمتحدة قد رأت ان تحل مشكلة الصراع علي البترول عسكريا فان اطرافاً اخري لها مصالح وبعض النفوذ رأت ان تحافظ علي مصالحها عبر عقد اتفاقات اقتصادية مثلما فعلت الصين مع ايران وبما تسعي اوروبا لفعله مع الجزائز وليبيا. الاتفاق الصيني الايراني جاء مفاجأة وان لم تكن كاملة، فالمعروف ان البلدين تربطهما علاقات مهمة في مجال البترول حيث تستورد الصين - ثاني مستورد للبترول في العالم - 14% من امداداتها البترولية من ايران كما ان للصين استثمارات محدودة في انتاج البترول الايراني والجديد في هذا الاتفاق ان الصين كما يتضح من ضخامة الرقم قد رمت بثقلها في سوق البترول الايراني علي نحو لم يحدث من قبل، ومن المفهوم ان الاتفاق الذي وقع يوم الجمعة الماضي قد سبقته مفاوضات شاقة وطويلة علي عهد الصينيين عند اتخاذهم للقرارات الاقتصادية خاصة ذات الطابع الاستراتيجي وللمقارنة فان حجم الاتفاقيات المتعلقة بالاستثمار في انتاج الغاز الطبيعي يتراوح ما بين 3 مليارات دولار كما في حالة مصر مع شركائها الاوروبيين و7 مليارات دولار كما في حالة الجزائر مع الاوروبيين ايضا وترتفع الي 13 مليار دولار كما في حالة قطر صاحبة واحد من أهم احتياطيات الغاز في العالم والتي تقوم بتنميتها مع مجموعات بترولية يتضح فيها النفوذ الامريكي.. اما الاتفاق الاخير بين الصين وايران فقد تعهد باستثمار رقم لم تسمع عنه الاسواق من قبل ويتعلق بمشاركة شركة سينوبك ثاني اكبر شركة نفطية في الصين في تنمية واكتشاف حقول الغاز في جنوب غرب ايران القريبة من بحر قزوين المنطقة الاخري الواعدة باحتياطياتها من البترول بعد الشرق الاوسط بالطبع وستحصل الصين وفقا للاتفاق علي 250 مليون طن من الغاز المسال عبر 25 سنة تبدأ مع الانتهاء من تنمية هذه الحقول والمقرر لها ان تستغرق 5 سنوات، من وجهة النظر الايرانية فان الاتفاق يحقق اكثر من هدف.. من ناحية فانه يجلب المال والخبرة التي تحتاجها لاستثمار ثروتها من الغاز، ومن ناحية ثانية فان الاستثمار الصيني يمثل جاذبية خاصة للايرانيين الذين يسعون للحد من نفوذ الشركات الغربية في سوقها النفطية كما انه كذلك يقربها اقتصاديا من الاسواق الناشئة بقوة في شرق آسيا وجنوب الشرق، وربما يكون في الحسبان ايضا ان الصين التي تمتلك حق الفيتو في مجلس الامن ربما تساند ايران في معركتها القادمة مع الولاياتالمتحدة بشأن ملفها النووي والتي تقترب الان من عرضه علي مجلس الامن.. ان الاتفاق الصيني الايراني فوق انه احد اكبر صفقات انتاج النفط الذي عرفها العالم يمثل كذلك تطورا نوعيا في الصراع الاستراتيجي الذي تشهده المنطقة بسبب البترول ايضا برغم اية مسميات اخري تتخذ شعارا لهذا الصراع كالحرب علي الارهاب مثلا.