أعتقد أن الحاجة قد أصبحت ماسة لوضع حد فاصل بين القرارات والإجراءات الاقتصادية، وبين الفتاوي القانونية والاجتهادات، التي قد لا تستوعب أهمية تلك القرارات وحدود المصلحة العامة، التي تهدف لتحقيقها. وإذا كانت ساحة القضاء قد شهدت ميلاد المحاكم الاقتصادية، إلا أن دورها وحدود تخصصاتها، لا يزالان يصطدمان بوجود ترسانة من القوانين والأعراف القانونية والقضائية، التي تعوق أداء دورها كقضاء متخصص له قوانينه ومعارفه وخبرته، وتخصصه الذي يلم بطبيعة العمل الاقتصادي الذي لا يعرف الجمود، ولكنه يتسع ليشمل حرية الحركة والديناميكية السريعة، والتي تجعل من أمر أو إجراء غير مقبول الآن أمراً عادياً ومقبولاً في الغد القريب. الاقتصاد هو تاجر قد يبيع أحد أنواع بضاعته بسعر بخس في وقت محدد، دون أن يعني ذلك انه يحب الخسارة أو يسعي اليها، ولكنه يتخذ قراراته بناء علي مجموعة من العوامل والحسابات الدقيقة، التي تختلف من تاجر لآخر وفقا لخبرته وتوقعاته، والمهم هو النهاية وحقيقة الارباح التي يحققها.. بل المهم اكثر هو تواجد التاجر بالأسواق بائعاً ومشترياً. أحياناً يضطر التاجر إلي أن يبيع بضاعته بسعر أقل من الاسعار التي اشتري بها، لانه سوف يدخل في صفقة جديدة تحتاج إلي وجود سيولة اكبر لديه، واحياناًً يبيع بأسعار اقل لانه سوف يشتري سلعة اخري من المشتري، ستكون أرباحه فيها أكثر. المهم هو ما يحققه في النهاية من أرباح. ولاشك أن طبيعة عمل الحكومة تختلف من دولة لأخري وحسب طبيعة توجهاتها الاقتصادية. الحكومة التي تضع اسعارا جبرية لسندوتشات الفول والطعمية والخضار والفاكهة والأحذية، ليست كحكومة تطبق آليات الاسواق الحرة والانفتاح الواسع علي غيرها من الأسواق. الحكومة عندما تبيع سلعة ما لدولة بأسعار تقل عن الاسعار التي تبيع بها لدولة اخري، من أجل الحصول علي صفقة لسلعة اخري بسعر أقل، لا تكون قد ارتكبت جناية أو مخالفة. ولأن القوانين أحياناً، والاعراف القانونية والقضائية لا تكون مرنة، ولكنها قوالب جامدة، يصبح عدم تطبيقها أو التقيد بها جناية ومخالفة، إذا ظلت نظرة القضاء إليها مقصورة علي حدود التطبيق الاصم للقانون. من هنا تبرز أهمية المرونة الاقتصادية، وعدم التقيد بالاجراءات والقوانين المعتادة في نظر أي قضية اقتصادية، ومن هنا أيضاً ظهرت نظرية العقاب المادي في المخالفات الاقتصادية أو المالية. فعقوبات المال هي المال، والغرامة المالية قد تكون بالنسبة للتاجر اكثر ردعاً وقسوة من مجرد احتجازه في قسم للشرطة، أو حبسه لمخالفة تترجم في النهاية إلي اموال، سواء بالمكسب أو الخسارة. أقول ذلك من واقع خبرة طويلة في التجارة عاشتها اسرتي، وخاصة جدي ووالدي اللذين مارسا التجارة علي مدي مائة عام. وأقول ذلك وأنا ارصد واقع المجتمع وحركة الاقتصاد المصري، وهو يجتاز اليوم نهايات مرحلة الاشتراكية وتحكم الدولة في كل شيء، وما انتهي إليه ذلك من ركود واتكالية باعدت بيننا وبين التقدم المنشود، وحتي بدأت عملية التحول لاقتصاد السوق، والتي تتعرض في احيان كثيرة لانتكاسات ومطبات كثيرة، لأنها تصطدم بقوانين صماء آن لها أن تواري التراب، في مقابر حقبة الاشتراكية وتسعيرة الفول والطعمية، وحتي الحلاقة!! وهي القوانين التي جعلتنا محلك سر لفترة طويلة. وأقول ذلك وأنا أرصد المهاترات، والصخب الذي تثيره بعض الابواق الاعلامية، التي تحمل معاول الهدم والتشويه، وللاسف الشديد تجد في حرية الصحافة والاعلام ستاراً خفياً لممارساتها الهدامة. كلنا نتذكر الهجمة الشرسة التي تعرض لها قطاع البترول والغاز، ووزيره المهندس سامح فهمي، فيما يخص اسعار بيع الغاز، التي تعد احد النماذج الصارخة لعدم المعرفة وتزييف الحقائق، وتشويه احد صروح مصر العملاقة، التي حققت لبلادنا انجازات هائلة وغير مسبوقة، وكانت رافدا اساسيا لكل ما حققناه من تنمية وانجازات. حاجة تفرحنا يبدو أننا -بالفعل - في حاجة ماسة إلي شيء يدخل الفرحة علي نفوسنا، وذلك في ظل حالة من الضبابية والقتامة، تحاول بعض الابواق الترويج لها بحملات من التشكيك والبلبلة وزعزعة الثقة، رغم ان الحقيقة تخالف ذلك تماماً، وتجعلنا اكثر تفاؤلا بالمستقبل، رغم كثرة التحديات والمشاكل والتي قد تمثل في بعض اوجهها امورا طبيعية، ترتبط بحالة الحراك والديناميكية السياسية التي تسبق دائما الانتخابات البرلمانية. فمنذ أسابيع قليلة، أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية الامريكية - والتي تمثل صدارة المؤسسات العالمية المشهود لها بالمصداقية، وتعتبر مرجعا أساسيا في سوق النفط ومشتقاته - ان مصر دخلت سباق اكبر عشر دول علي مستوي العالم في احتياطيات الغاز الطبيعي، وأن المؤشرات تؤكد انها تدخل المرتبة السادسة عالمياً، وباحتياطيات مؤكدة 322 تريليون قدم مكعب، تضاف لرصيد محقق يصل إلي 1.87 تريليون قدم مكعب. وأشارت إلي أن الاحتياطيات الجديدة تكمن فقط بمنطقة حوض دلتا النيل الترسيبي، ولا تشمل الاحتياطيات المتوقع اكتشافها بباقي المناطق، مثل غرب البحر المتوسط، والصحراء الغربية والصحراء الشرقية، وجنوب الوادي وسيناء، وخليج السويس والبحر الاحمر. وهذا الاعلان من جانب هيئة المساحة الجيولوجية الامريكية، يمثل اشارة هامة تحول مصر إلي قبلة لاستثمارات البترول والغاز العالمية. ويعني مزيدا من الاستثمارات الاجنبية، ويعني -أيضاً- دخول تكنولوجيا وتقنيات جديدة، ويعني تدريبا وخبرة متراكمة لاجيال جديدة من الكوادر المصرية. يعني مزيدا من الموارد المالية لخزانة الدولة. يعني طفرة غير مسبوقة حققها هذا القطاع من خلال استراتيجية متكاملة، وضعها محترف هو المهندس سامح فهمي وزير البترول، والذي كان هدفا لسهام كثيرة لم تكن تقصد شخصه، بقدر ما كانت تود اغتيال الفرحة واحساسنا بالنجاح، وأننا قادرون علي الانجاز، بل والحفاظ علي حقوق اجيالنا القادمة من تلك الثروة الناضبة. لقد استطاع قطاع البترول تحقيق الرؤية الثاقبة للرئيس مبارك، في أن تصبح مصر مركزا اقليميا للطاقة، تقوم بامداد الاشقاء العرب بكل احتياجاتهم. فلا شك أن امداد لبنان والاردن وسوريا بالغاز الطبيعي، ثم وصوله إلي اوروبا عبر تركيا، يأتي امتدادا لدور مصر الفاعل اقليمياً، وفي اطار يحقق المصالح المشتركة لمصر ومحيطها الاقليمي، ويكمل دورها كلاعب سياسي وقوة اقليمية كبري. لا أبالغ عندما اقول ان قطاع البترول حقق طفرة لم يكن اكثر المتفائلين يتوقعها، فمع الزيادة المطردة في حجم الاستهلاك، والمشروعات الضخمة التي اقامتها الوزارة لتوصيل الغاز الطبيعي، إلي ما يقارب ثلاثة ملايين منزل وآلاف المصانع، جاءت عملية زيادة الاحتياطي من خلال الاكتشافات الجديدة، أو تطوير التكنولوجيا المستخدمة لاستثمار الحقول والآبار المنتجة. لكن يبقي التحول الاعظم في قطاع البترول، بدخوله كتاجر في الاسواق يبيع ويشتري، يصدر ويستورد وفقا لقاعدة الربح، وتحقيق اقصي قدر من الاستثمار الامثل لحركة الاسواق المفتوحة. ويكفي مثلا ان نعرف ان امريكا وايران وروسيا، وهي من اكبر الدول المنتجة للغاز تقوم -أيضاً- بالاستيراد. ورغم خبرة المهندس سامح فهمي كمهندس للبترول، إلا انه أضاف إليها رصيداً ضخماً من المهارة والخبرة كتاجر محترف، يضع نصب عينيه تحقيق اقصي قدر من الربح لبلاده، وحدث ذلك من خلال استراتيجية لتعظيم الاستثمار في هذا القطاع، سواء فنيا أو اقتصاديا. ولان الجوانب الاقتصادية لقطاع البترول والغاز، تتعلق في احيان كثيرة بالاتفاقيات الموقعة مع الشركات العالمية، التي تقوم بالتنقيب والاستكشاف وفق قواعد اقتصادية ثابتة، إلا انه حقق طفرة غير مسبوقة بتعديل معادلة تسعير الغاز وربطه بسعر خام برنت، وبعيدا عن التفاصيل الدقيقة لهذا الربط، فقد أدي ذلك إلي حماية مصر من عملية تقلب الاسعار، وبلغ الوفر الذي تحقق لمصر من جراء تعديل الاسعار في الاتفاقيات الموقعة، لما يقارب 23 مليار دولار، منها 02 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الاخيرة، ويتوقع وصول هذا الوفر إلي مائة مليار دولار خلال 51 عاما. وبعيداً عن الوفر المالي الذي تحقق لخزانة الدولة، فإن هذا التعديل اتاح أسعارا اقتصادية للغاز، الذي أصبح القوة المحركة لقطاعي الصناعة والكهرباء، وأتاح آفاقاً وأسواقاً أوسع لصادرات الغاز المصرية، وما تدره من عائد ضخم لموازنة الدولة.