الانتفاضات تندلع عندما يري الناس أن مصالحهم وأرزاقهم تتعرض لضغط شديد، وأي تفجير للوضع الأمني ليس في مصلحة أحد لا الفلسطينيين ولا إسرائيل لكن الكرة في ملعب إسرائيل. الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضفة الغربية الحالية اسهمت بشكل كبير في تصاعد حدة التوتر بعد سنوات من الهدوء النسبي ما ينبئ باشتعال انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية، عزز من هذه الفرضية عمير ميزروخ رئيس تحرير موقع إسرائيلي اخباري يصدر بالإنجليزي حين ما نقل المشهد السياسي الحادث الآن في الأراضي الفلسطينية قائلا: "مداهمات في رام الله واعتقالات في جنين واطلاق رصاص وأعمال شغب في الخليل، هل هي مشاهد لبداية الانتفاضة الثالثة؟ يضاف إلي كل ذلك الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تجتاح الضفة الغربية وقطاع غزة. ربما يحدد الاسرائيليون بأنفسهم إلي حد كبير أي كفة سترجح ومن الممكن أن يؤدي نهج تصادمي بشأن المسائل الأمنية أو العنف من جانب المستوطنين اليهود، أو رد فعل غير متكافئ علي الخطوات الدبلوماسية التي تقوم بها السلطة الفلسطينية إلي اشعال اضطرابات واسعة في الضفة الغربية. فالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية ليست وليدة لحظتها، بل تعاني منها منذ سنوات بفعل امتناع الدول المانحة عن الوفاء بوعودها في تقدم الأموال المقررة كمساعدة للسلطة الفلسطينية بالإضافة إلي ممارسة الولاياتالمتحدةالأمريكية سياسية المنح والمنع في إدارتها للمفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل كنوع من الضغط علي السلطة للقبول بشروط إسرائيل وشروطها بشأن المفاوضات وجاءت الضربة الأخيرة من إسرائيل حينما حجبت هذا الشهر مائة مليون دولار من رسوم لجمارك التي تحصلها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية في الأممالمتحدة والتي رأت إسرائيل أنها تنتهك اتفاقات السلام بين الجانبين وهددت تل أبيب بحجب 300 مليون دولار أخري علي الأقل لتغطية التزامات مالية لم تسددها السلطة الفلسطينية لشركات مرافق إسرائيلية هذه ليست المرة الأولي التي يجري فيها حجز أموال السلطة لكنها المرة الأولي التي يجري فيها التصرف في هذه الأموال فحكومة نتنياهو تقوم للمرة الثانية باحتجاز أموال السلطة وربما يستمر هذا الحجز حتي ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في نهاية الشهر المقبل. والآن لا يوجد بديل لدي السلطات في حل لهذه المشكلة سوي البحث عن تمويل والدول العربية هي الجهة الوحيدة التي يمكن التوجه إليها لهذا الغرض ومثل هذه الاجراءات مارستها إسرائيل قبل ذلك ففي عام 1997 قامت بهذا الاجراء لمدة أسبوعين وفي عهد حكومة ارئيل شارون عام 2000 لمدة سنتين ثم إلي 16 شهرا في عهد حكومة ايهود أولمرت عامي ،2006 2007 وهذه الاجراءات في حد ذاتها هي انتهاك لقانون الدولي وعدوان سافر علي أرزاق الفلسطينيين الذين لم يحتملوا ضائقة العيش أكثر من ذلك وبدأوا في اضراب مفتوح حتي تلبي مطالبهم العادلة التي تعجز السلطة بدورها عن الوفاء بها وذلك للأسباب الانفة الذكر. وتأتي هذه الاضرابات التي تشهدها الضفة الغربية مع اقتراب الانتخابات العامة الاسرائيلية المقررة في 22 يناير المقبل ومع تجاه المجتمع الإسرئيلي صوب اليمين المتشدد ويعلم السياسين أن بإمكانهم الفوز بأصوات من خلال اتخاذ مواقف صارمة وغير مهادنة ويزيد هذا بدوره احتمالات اتخاذ خطوات غير محسوبة أو سوء تقدير. وحتي قبل الدعوة للانتخابات كان "يوفال ديسكين" رئيس جهاز الأمن الداخلي "اليشين بيت" السابق يدق ناقوس الخطر فقد قال في مايو الماضي عندما ترتفع مستويات تركز أبخرة الغاز في الهواء بدرجة كبيرة يكون السؤال الوحيد هو متي ستأتي الشرارة لاشعاله. وكانت الشرارة التي أشعلت انتفاضة عام 1987 حادث طريق يبدو عاديا تماما قتلت خلاله ناقلة دبابات إسرائيلية أربعة فلسطينيين. وانتهت تلك الانتفاضة عام 1993 بعد أن فتحت الطريق أمام اتفاقات أوسلو للسلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي وعدت بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي خلال خمس سنوات واندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000 بعدما فشلت حملة تفاوض قادتها الولاياتالمتحدة في التوصل إلي تسوية نهائية وعلي مدي السنوات السبع التالية وبعد فترة كمون طويلة عاشها الفلسطينيين بفعل عوامل كثيرة فإن ثقتهم بأنفسهم ازدادت بصورة كبيرة في الفترة القليلة الماضية بدافع عدد من العوامل المختلفة أيضا علي رأسها فشل المفاوضات مع إسرائيل والوضع الاقتصادي المتدهور ويقين المواطن الفلسطيني أن الرجوع للمقاومة هو الحل رغم كل الصعوبات والتحديات التي يعيشها حاليا. فقد نما اقتصاد الضفة الغربية بنحو 40% منذ نهاية الانتفاضة الثانية واتضح هذا بشدة في رام الله العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية وتدفقت المساعدات الأجنبية وأصبح مستوي المعيشة مقاربا لنظيره في بعض الدول الأوروبية لكن هذه الرفاهية كانت تقوم علي أساس هش. فقد تسببت سهولة الحصول علي المال في تضاعف الديون الشخصية للفلسطينيين خلال الفترة من 2008 2011 حيث قفزت 40% في العام الماضي وحده ولا تستطيع الحكومة التي تعتمد علي المساعدات معادلة موازنتها إذ توقع البنك الدولي أن يبلغ عجز الموازنة 12،3% من الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام. لقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال في فبراير الماضي أن 29،3% من الفلسطينيين يؤيدون العمليات العسكرية ضد إسرائيل بعد أن كانت النسبة 84،6% عام 2010 وقال نحو 72% ممن شملهم الاستطلاع إن الاعتبارات الاقتصادية والوضع السياسي هي أهم عوامل في تحديد ما إذا كانوا يؤيدون مثل هذه العمليات أم لا وإذا ما استمرت الأوضاع الاقتصادية والسياسية علي حالها فربما يتغير المشهد بما ينذر بانتفاضة ثالثة في الطريق لا محالة.