لم يكتف بائع الأحذية أن يقتطع جزءاً من الطريق المقابل لسور الأزبكية في اتجاه شارع 26 يوليو وأن يقوم بنصب بضاعته في عرض الشارع.. وأن يضع أيضاً مظلة ليجلس تحتها آمناً مطمئناً إلي أن أحداً لن يجرؤ علي مساءلته في السطو علي الشارع، بل وصل به الاستهتار والتحدي أن يحضر معه "الشيشة" أيضاً.. وأن ينفث دخانها علي بعد خطوات من أحد عساكر المرور الذي كان مكتفياً بالنظر إلي السيارات التي حاربت للخروج من عنق الزجاجة الضيق في هذا المكان في مشهد عبثي يترجم حالة المرور في شوارعنا..! وقريباً من هذا البائع وأمام فتحة الخروج لنفق الأزهر فإن سائقي سيارات "السوزوكي" أقاموا موقفاً خاصاً لسياراتهم وهم يقودونها في الاتجاه العكسي وينادون علي الركاب..! ولكي يكتمل المشهد الذي أصبح معتاداً في كل شوارع وميادين مصر فإن الباعة الجائلين أتوا من كل مكان للمشاركة في وليمة الفوضي، فإلي جانب بائع التين الشوكي، كان هناك بائع الذرة المشوية، وبجوارهما عربة يقوم صاحبها بتقديم عصير البرتقال الطازج ووقف بائع الليمون يبحث عن زبائنه، أما بائع "الخس" فهو مشغول دائماً بإزالة أوراق الخس التي أفسدتها الحرارة.. ولم يكن صاحب عربة الآيس كريم بعيداً عن المشهد، فله زبائنه أيضاً، بخلاف العديد من الباعة الجائلين الذين احتلوا الشارع وافترشوه ببضائعهم، ولا تدري ما الذي يقومون ببيعه.. ومن سمح لهم بذلك؟! وأحداً بالقطع لم يسمح بشيء، فكل من يريد أن يفعل شيئاً، سيفعله.. وكل من كان يحلم بالوقوف في الشارع لبيع المناديل الورقية أو زجاجات المياه المثلجة، سيجد أنه من الأفضل له لو فكر قليلاً أن يقوم ببناء كشك علي أي رصيف وسرقة التيار الكهربائي من أي عمود إنارة ولن يكون في مقدور أحد أن يقول له شيئاً، أو أن يفكر في عقابه..! ونسأل.. ونتساءل.. أين شرطة المرافق.. أين الأجهزة الأمنية.. وأين من يراقب ويهتم بسلامة وانسيابية المرور في شوارعنا؟ ولن تجد رداً مقنعاً، فالأمن رغم كل ما قيل وما يقال مازال غائباً، ومازال متردداً في تنفيذ مهامه، ومازال الغموض يحيط بسياساته في التعامل مع المواطنين ومازال يبحث عن معالم طريق جديدة لكيفية التعامل.. وكيف يمكن الاصطدام مع الجماهير..! والاصطدام مع المواطنين هو أم المشكلات بالنسبة للأمن الآن.. فالناس لا تريد لرجال الأمن أن يمارسوا عملهم بالقانون أو بغيره، والناس أصبح لها قانونها الخاص القائم علي مصلحتها وتجاوزاتها، ولا تريد لأحد أن يفرض عليها قانوناً عاماً. ولو تجرأ رجال الأمن الآن علي إغلاق أي منشأة أو محل مخالف وبدون تراخيص فإنهم سيواجهون بمقاومة من الأهالي واحتكاكات وتجمهر ويتعرضون للضرب والإهانة، وسيخرجون في نهاية المطاف خاسرين وقد يفقد بعضهم موقعه وعمله أيضاً. ولو حاول رجال الأمن حالياً تنفيذ توجيهات الرئيس محمد مرسي بإزالة التعديات علي الأراضي الزراعية في المحافظات فإن المعارك التي ستنشب هناك كفيلة بأن يفقد معها وزير الداخلية الحالي والقادم.. وما بعد القادم مواقعهم ومواقع كل المحيطين بهم لأن تنفيذ هذه التوجيهات لا يعني المصادمات وعلو صوت السلاح في المواجهات. ولأن رجال الأمن عبر عقود طويلة لم يكونوا في حاجة إلي تبرير ما يفعلون أو الالتزام بالقانون في تأدية عملهم، وكان اعتمادهم علي القوة والهيبة، فإنهم يواجهون أزمة هائلة الآن في التعامل مع المواطنين بأسلوب يجمع ما بين الحزم والقانون والاحترام، ولا يجدون مساحة للتحرك والمناورة في تأدية عملهم بأسلوب جديد، ويخشون عواقب الخطأ والتجاوز، فأدي ذلك إلي التردد في اتخاذ القرار وربما التقاعس عن تنفيذه أيضاً خوفاً من المساءلة والعقاب..! والنتيجة.. هي أننا أصبحنا أمام شارع بلا صاحب.. وأمن بلا رؤية، وبلد يحتله عدد من الباعة الجائلين الذين تحول بعضهم إلي بلطجية في الطريق العام، واختلال مروري رهيب نتيجة لانفلات غير مسبوق في سلوكيات سائقي الميكروباصات والنقل والأجرة..! وهو مشهد يقضي علي كل محاولات الإصلاح والتغيير، لأن الإصلاح يبدأ من الشارع، ولأن الناس إذا فقدت الأمن والأمان، فقد فقدت كل شيء، والأمن والأمان مازالا غائبين، وكل يوم هناك من يستعرض ويظهر قوته علي رجال الأمن فقط دون أن ينظر إلي عواقب ذلك، ودون أن يحاول احتواء أي أزمة لكي يمكن أن تعود لرجال الأمن الثقة وأن يواصلوا أداء عملهم بمساندة مجتمعية وبتعامل أكثر رأفة بظروفهم وبتوجيههم بروح من التحلي بالصبر حتي يدركوا ويستوعبوا ويهضموا المتغيرات الجديدة..! إننا لم نعد نجد رصيفاً نسير عليه، ولا شارعاً يمكن القيادة فيه بسلاسة وانسيابية، ولا منطقة تخلو من الباعة الجائلين.. ولا مكاناً نشعر فيه بالهدوء والاطمئنان.. وإذا لم نتعاون معاً لسرعة عودة الأمن والنظام والالتزام بالقانون فإن بيوتنا أيضاً ستواجه خطراً رهيباً.. وسيصبح اقتحامها مباحاً مستباحاً.. فميدان التحرير أصبح خالياً.. ولكن الفوضي في أماكن أخري كثيرة..!