ما الذي جري لعقولنا.. وما الذي نقوله عن المعايير التي غابت والقيم التي ضاعت.. والمزايدات التي أصبحت شعار المرحلة في كل المجالات وعلي كل المستويات.. ففي الأول من شهر فبراير الماضي كنا مع أبشع كارثة رياضية في تاريخ مصر، حيث شهدت مباراة النادي المصري البورسعيدي مع الأهلي القاهري وقائع مذبحة اعتدي فيها جمهور بورسعيد الذي دخل أرض الملعب بالآلاف علي لاعبي وجمهور النادي الأهلي وراح ضحية هذه الاعتداءات الهمجية أكثر من 73 شابا من مشجعي النادي الأهلي من صغار السن الذين ذهبوا يحتفلون ويغنون ويفرحون فعادوا في نعوش تروي قصة لعبة كانت رياضية فأصبحت دموية..! وكان متوقعا إزاء هذه الكارثة أن تخرج بورسعيد عن بكرة أبيها في مظاهرة جماهيرية واحدة تستنكر ما حدث وتنعي الشهداء وتندد بالمذبحة وتعتذر لمصر كلها وترفض أن يقام أي نشاط رياضي علي أراضيها إلي أن يتم القبض علي الجناة والقصاص للشهداء..! ولكن بدلا من الخروج في مظاهرات عقلانية حضارية في أعقاب الحادث للتأكيد علي رفض بورسعيد للعنف والدم.. وبدلا من المطالبة بإيقاف النشاط الرياضي كله احتراما وتعاطفا مع أسر الشهداء، فإن أعضاء مجلس الشعب عن بورسعيد استغلوا القضية لتحقيق مكاسب انتخابية، وراحوا يصورون ما يحدث علي أنه حصار ومعركة ضد شعب بورسعيد، وراحوا يتحدثون عن غضب جماهيري في بورسعيد إذا ما تم اتخاذ أي عقوبات ضد النادي المصري، ونسوا أو تناسوا تماما أرواح الشهداء، وأن القضية لم تعد كروية ولا علاقة لها بالنادي الأهلي أو بالرياضة وإنما هي تتعلق بالدم الذي أريق وبأرواح شهداء أبرياء تم اغتيالهم بقسوة في وضح النهار، وأمام أعين الجميع..! وطمسا للعدالة، وأمام حملات التعصب والتهييج وإثارة المشاعر المضللة، والتلاعب علي الإرث التاريخي لجماهير بورسعيد الشديدة الحماس فإن ذلك كله تبلور وترجم في مسيرة شعب بورسعيد يوم الجمعة الماضية والتي كانت تحت شعار "احذرونا"، والتي تحرك فيها عشرة آلاف بورسعيدي كان مطلبهم الأول يتمثل في ضرورة الإفراج عن المتهمين في قتل مشجعي النادي الأهلي دون أن يتحدثوا عن القصاص العادل، ودون أن ينفعلوا من أجل الشهداء مكتفين بترديد أن من قام بالجريمة مجموعة من الدخلاء علي بورسعيد حيث أعجبت البعض هذه المقولة دون أن يجدوا تفسيرا للمشاهد التي تابعها الجميع علي شاشات التليفزيون والتي يظهر فيها آلاف من مشجعي المصري وهم يقتحمون الملعب من كل جانب في أعقاب انتهاء المباراة..! وكان غريبا ومؤلما أن يرفع بعض من شاركوا في المسيرة أعلاما لإسرائيل وعليها شعارات مكتوبة تتحدث عن الانحياز للنادي الأهلي، وكأن النادي الأهلي المصري قد أصبح ناديا إسرائيليا..! وما فعله شعب بورسعيد في هذه المظاهرة كان اسوأ وسيلة للدفاع عن قضيتهم، وكان أكثر تأكيدا علي روح التعصب التي تسود بعض الجماهير والتي تترجم قدرا كبيرا من الكراهية للنادي الأهلي وجماهيره والتي تعني أيضا في مضمونها أن هذه الروح من التعصب والكراهية يمكن أن تقود إلي عمليات انتقام وقتل كما حدث في كارثة استاد بورسعيد..! إن كامل أبو علي رئيس النادي المصري الذي استقال في أعقاب المباراة لم يتخل بذلك عن النادي المصري في وقت المحنة، ولكن الرجل أدرك عمق المأساة، وتفهم أنه لا يمكنه الدفاع عن قضية خاسرة وأن ما شاهده لا تبرير له، ولا قيمة أو مجال للبقاء في ساحة الرياضة التي ضاعت فيها أرواح شباب أبرياء لم يتوقعوا يوما أنه سيأتي إليهم من يقذف بهم من أعلي المدرجات لكي يلقوا حتفهم دون ذنب اقترفوه أو عمل يبرر هذه الاعتداءات الدموية المؤلمة. ولقد قرر اتحاد كرة القدم الغاء مسابقة الدوري العام لهذا العام، وهو أمر كان متوقعا ومطلبا من كل الفئات والجماهير، مهما كانت المبررات والدفوعات بأن الأندية سوف تتحمل الكثير من الخسائر المادية نتيجة لهذا الإيقاف، فأيا كانت هذه الخسائر فإنها لا تساوي شيئا أمام ما حدث من كارثة وما حاق بنا من تلطيخ للسمعة وتشويه لمكانة هذا الوطن وما ضاع من أرواح الأبرياء. إننا نأمل أن ترتفع جماهير كرة القدم في بورسعيد وفي كل مكان في مصر إلي حجم المسئولية، وأن تتوقف لغة التهديدات والتحذيرات، وأن يعمل أعضاء مجلس الشعب علي تهدئة الجماهير وتوعيتهم بدلا من جر مصر كلها إلي حرب مدن سندفع جميعا ثمنها..! ** ملحوظة أخيرة: نأمل ونتمني ألا تتحول الحملات الانتخابية الرئاسية إلي مجرد ضربات تحت الحزام.. نريدها منافسة شريفة من أجل مصر. [email protected]