هل جاء الدور علي الرأسمالية المادية كي تلفظ أنفاسها الأخيرة كما حدث للشيوعية في أوائل تسعينيات القرن العشرين؟ هذا السؤال يطرح نفسه بعد ظهور موجة الاحتجاجات التي شهدتها مدينة نيويورك خلال الشهر الماضي، وهي حالة تعبير وسخط من النظام الرأسمالي المتوحش الذي أعطي الفرصة علي حد قول المتظاهرين لأن تستحوذ فئة محدودة من رجال الأعمال الجشعين علي أرباح أسواق المال علي حساب القاعدة العريضة من صغار المواطنين الذين فقدوا وظائفهم ومصادر معيشتهم بسبب تصرفات وسلوك القلة من رجال الأعمال الذين لا يكترثون بمصائر القاعدة العريضة من الشعب الأمريكي.. ثم أصبح السؤال أكثر إلحاحا بعدما اجتاحت موجة المظاهرات والاحتجاجات كل البلدان الغربية تقريبا. ولكي يكون تحليلنا لتلك الأحداث شاملا فلابد أن نأخذ في الاعتبار الظروف التي تمر بها الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنطقة اليورو من أزمات اقتصادية "سبق أن تناولناها في مقالين سابقين منفصلين" تلك الأزمات كانت السبب في اشتعال الاضطرابات في بلدان أوروبا المتضررة من تلك الأزمات وعلي رأسها بالطبع اليونان التي توشك علي إعلان إفلاسها، كذلك هناك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وايرلندا.. تلك الأزمات دللت علي شيء واحد وهو أن النظم الرأسمالية أصبحت علي وشك الانهيار.. تلك النظم التي طالما تغنت بنجاح الرأسمالية ووقوفها أمام الاختبارات تلو الاختبارات، ونظرت بتشفٍ إلي النظم الشيوعية إبان فترة انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن السؤال المهم هو: لماذا حدثت تلك التطورات التي دعتنا للقول بأن الرأسمالية تواجه أزمة عميقة، وربما تكون علي شفا الانهيار؟ في رأينا أن الإجابة تكمن في أن كل نظرية جاءت لكي تسد الحاجة في جانب وتناست جوانب أخري، ونحن نري أن الرأسمالية لم تراعٍ الحاجات الاجتماعية للبشر بصورة كافية نتيجة المادية المفرطة، وهي التي دعت المواطنين الأمريكيين إلي التظاهر بجوار بورصة وول ستريت بنيويورك، ومطالبتهم بأن تنظر الشركات الأمريكية الكبيرة بعين الاعتبار والرحمة لظروف هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم ومنازلهم وحياتهم نتيجة لعدم قدرتهم علي تحمل الأعباء التي فرضت عليهم نتيجة سياسات تلك الشركات. أمريكا التي لطالما تغنت بنمط معيشتها وبأنها وطن الأحلام وأرض الديمقراطية تتعرض الآن لخطر الانهيار، وأول علامات الانهيار دائما ما يكون الانهيار الاقتصادي، فالاقتصاد الأمريكي عُرف دائما بأنه قاطرة العالم وبأن الاقتصاد الأمريكي يعتمد علي القوة الأمريكية، واستفادت أمريكا أيما استفادة من نشوب الحرب العالمية الثانية وكانت الدولة الوحيدة التي دخلت الحرب من دون أن تتعرض أراضيها للعدوان الألماني أو الياباني "باستثناء تدمير الأسطول البحري الأمريكي في جزر هاواي التي كانت تابعة للولايات المتحدةالأمريكية".. وبالتالي فقد حفز المجهود الحربي اقتصادها.. وخرجت أمريكا بعد الحرب هي والاتحاد السوفيتي القوتان العظميان، بديلا عن إنجلتراوفرنسا اللتين كانتا القوتين الاستعماريتين المسيطرتين علي معظم دول العالم والآن يبدو أن الأمور تسير في اتجاه آخر، فالأحداث تنبئ بأننا أمام تحول دراماتيكي تخبو فيه أمة وتصعد أمة أخري. ونحن نري أن الأمة التي تلوح بوادرها في الأفق هي الصين.. فالصين ماضية بثبات وبدون ضجيج نحو الصدارة، وهي في حالة تؤهلها لأن تكون كذلك.. وتوشك علي أن تسحب البساط من تحت أرجل الولاياتالمتحدةالأمريكية.. واللافت للنظر أن الصين وهي الدولة الشيوعية والتي لم تتخل عن شيوعيتها رغم أخذها بكثير من ملامح النهج الرأسمالي الغربي، ونحن نري أن هذا هو مكمن قوة الصين فقد مزجت بين النظريتين، فهي لم تلغ الفرد من حساباتها وتجعله مجرد رقم بل اهتمت ببنائه مؤمنة بأن الفرد هو أصل التنمية والثورة التي قام بها ماوتسي تونج في الستينيات بدأت تؤتي ثمارها الآن بالرغم من تحفظاتنا علي مسلكه في التنفيذ. ومن جانب آخر فإن الصين لم تتأثر بالرأسمالية الجامدة المادية التي لا تراعي القيم والمبادئ الإنسانية التي قام من أجلها متظاهرون "احتلوا وول ستريت" بحركتهم للتعبير عن استيائهم من وحشية الرأسمالية التي افترستهم دون رحمة أو شفقة وهو ما يمثل علامة ظاهرة لأول تعبير عن الكراهية للرأسمالية في قلاعها الحصينة التي اعتبرت نفسها حامية حمي الرأسمالية.. وإذا لم يقم المنظرون المؤيدون للرأسمالية بالتجديد وترميم ما شاب الرأسمالية من مظاهر الشيخوخة والهدم وإدخال بعض الجوانب الاجتماعية لها لكي تصمد أمام معاول الهدم التي بدأت تنخر في أوصالها فإن مستقبل الرأسمالية سيكون مهددا بخطر حقيقي. salah [email protected]