حين أتجول مساء أيام السبت بين بيوت أصدقائي في الولاياتالمتحدة ، من نيويورك إلي فيرجينا إلي فلوريدا، وحين تنقل لي كاميرا الكمبيوتر ملامحهم وتنقل إليهم ملامحي، أجد بعضا من حشرجات الأسي في أصواتنا، وإن كانت التجاعيد لا تظهر سوي علي ملامح من يسكنون نيويورك وحدها ، وطبعا ملامحي كواحد من سكان القاهرة المزدحمة ، ويقول لي الصديق الطبيب المخضرم فؤاد بشاي "قلت لك أن تسكن في الساحل الشمالي بدلا من القاهرة ، فهواء القاهرة يقصف العمر كهواء نيويورك ، هواء مسروق منه الأوكسجين".وطبعا يسمعه زميله الطبيب المخضرم محمد نور ساكن نيويورك ليقول ليس الهواء وحده الناقص للأوكسجين، ولكن المناخ أيضا ناقص للإطمئنان ، فالسير بين عيون كالسكاكين التي تفتشك هو عادة نيويوركية وقاهرية أيضا. وهنا يضحك الصديق بسمي ميلاد الساكن في قرية تامبا بفلوريدا قائلا ّ دعوتك جميعا للحياة معي هنا في فلوريدا حيث السحاب يلعب من الخضرة الشاسعة لعبة تنقية مستمرة للهواء، ولكنكم ترفضون. وطبعا حين أتأمل تلك الصداقات وكيف استطاعت شبكة الاتصالات المعاصرة أن تجعلنا في لقاء يوم كل سبت أشكر السماء لأني عشنا فيما قبل في زمن نتراسل فيه بالخطابات ، ولا نتواصل تليفونيا إلا فيما ندر. وهم قد هاجروا إلي الولاياتالمتحدة منذ نهاية الستينيات. وشقوا طريقهم إلي الحياة المقبولة ، وعادة لايأتي لزيارة القاهرة سوي محمد نور أستاذ جراحة العظام الكبير، أما فؤاد بشاي فقرر عدم زيارتها لأنه يمرض غالبا إما بالحزن لأنها لم تعد مدينة متسامحة وترغب في مناقشة أمور الحياة في العالم الآخر قبل أن تتقن فنون الحياة علي الأرض ، علي الرغم من أن القاهرة هي التي علمت الكون كله أهمية تعمير الأرض قبل مناقشة أمور الرحيل إلي العالم الآخر . أما بسمي ميلاد فهو فنان يعيش طوال الوقت في مزاولة عمله كمدير وصاحب مطبعة فاخرة وصغيرة، ويعطي نفسه أجازة ثلاثة أيام كل أسبوع ليمارس هوايته كرسام مصور ، ويقول عشقت سحاب فلوريدا ولا أرضي بديلا عن صحبته فأي سحاب آخر في أي بقعة في العالم ليس في روعة سحاب فلوريدا. ولكن تغمر لقانا الأسبوعي حالة من الحزن الغامض لأننا لا نستطيع التواجد كأصدقاء بحضور أجسادنا لنأكل سندويتشات الفول والطرشي البلدي ونضحك ونحاكم الكون كله كما كنا نفعل أيام الشباب ، ونحاول عبر الضحكات أن نتجاهل السبب الواضح لهذا الحزن وهو أننا لا نستطيع العودة بالزمن إلي أيامنا الأولي حين كنا نمرح في القاهرة من أقصاها إلي أقصاها . ولا يغنينا اللقاء عبر الماسنجر عن اللقاء الفعلي، ولذلك أفكر كثيرا في السفر إلي الولاياتالمتحدة لا لأتابع أوباما أو أي أحداث سياسية أو علمية، ولكن لتبديد غربتنا حين نلتقي نحن الأصدقاء معا . نعم الصداقة هي التنقية الفعلية للأعماق من أية أحزان، خصوصا صداقات أيام بدايات صناعة المستقبل .