العديد ممن يكتبون عن الحقبة الناصرية ، يتخذون من الاعتقالات التي حدثت ضد المثقفين والإخوان المسلمين وثيقة ضد إنسانية هذه المرحلة المهمة من تاريخ المصريين . وطبعا يتناسون أن "حلم الديمقراطية" الذي كان قبل 23 يوليو سيطر لبعض الوقت علي أذهان كل من ينظر إلي المرحلة الناصرية بعيون الشك وعدم التقدير. ولأني واحد ممن عاشوا تلك الفترة بكل ما فيها من تقدم مادي وإنجاز قام بتغيير حياة المصريين والعرب ، لذلك فليس لي سوي أن أستشهد بما قاله العظيم والجليل المغفور له فيصل بن عبد العزيز آل سعود ، الذي قال في وداع جمال عبد الناصر "رحم الله الرجل، فقد أعطي هذه الأمة فكرة عن امكاناتها". ومازلت أعتب علي كل من عاشوا تلك المرحلة من عمر مصر أنهم لم يقوموا بتقييمها التقييم الصحيح، بمعني أن يقيموا ميزانا دقيقا للسمات التي دارت في أتونها أحداث يوليو من بدايتها إلي نهاية الشرعية الثورية ، حسب تقسييم أستاذنا أحمد بهاء الدين، أي في السادس من أكتوبر عام 1973، فحين تولي الرئيس السادات الحكم ، تميز عن الرئيس عبد الناصر بأمر واحد هام، ألا وهو الحكم من خلال الخطوط العريضة للسياسة، ولم يكن من هواة الاندماج في التفاصيل وكانت عيونه دائما علي استرداد الأرض المحتلة بعدوان 1967 ، ثم التنمية التي يمكن أن تخرج بحياة المواطن المصري من دائرة العوز إلي دائرة إنتاج ما يكفل له حياة مقبولة. ولم يكن ذلك هو اختيار السادات بمفرده، ولا هو اختيار عبد الناصر بمفرده، ولكنه كان اختيار 23 يوليو بكل فصائلها منذ قيام الثورة، وحتي نهايتها بنصر أكتوبر 1973. وكانت أبرز عيوب جمال عبد الناصر هو سيطرة فكرة الأمن علي فكرة الإدارة الرشيدة في مواقع الإنتاج المختلفة ، ولذلك وجدنا النقد العنيف لتلك المرحلة حين تولي المحاسيب والطامحين إلي الرقي سلم مناصب الدولة دون أن يتدربوا جيدا علي الإدارة الرشيدة، فضلا عن أن تجاهل دور الرأسمالية الوطنية في مراحل الثورة أودي بكثير من القدرات الخلاقة والمنتجة، وألقاها خلف قضبان الإنكار لقوة أفكارها. ولم يكن هناك عذر لجمال عبد الناصر في تجاهل تلك القوة، حتي ولو كان العذر هو إحساسه بأن الرأسمالية بطبيعة نشأتها وقوة وجودها لم تملك الوعي الكافي لمعني الإنتماء إلي الثورة، فالثورة ينتمي إليها المحتاجون إلي إعادة توزيع عائد الإنتاج. وهو إحساس ظلم به جمال عبد الناصر نفسه وأيامه كلها. واعتمد علي العديد من رجال الضجيج اللفظي دون القادرين علي النظر إلي امكانات تطوير وزيادة إنتاج الأرض الزراعية، أو التصنيع الصغير الذي يفي باحتياجات البشر إلي التنوع والجودة . ولعل وجود 23 يوليو بين حجري طاحون السياسة العالمية المنقسمة إلي معسكرين ، هو ما دفع جمال عبد الناصر إلي ما سمي بالمرحلة الاشتراكية ، ولم يكن في تلك المرحلة أي شيء اشتراكي ، ولكن كان هناك ضجيج لفظي مصحوب بما أرادته الدولة من إدارة كل شيء ، ولم يكن هناك سوي تجاهل من الغرب المصر علي أن تكون مصر مجرد قرية خلف البحر المتوسط ، وإصرار جمال عبد الناصر علي أن مصر دولة محورية مؤثرة بانتمائها العربي والأسيوي والأفريقي ، وهو الأمر الذي صار بديهيا أثناء حياته ومن بعد مماته. وكثيرة هي السمات إيجابية وسلبية عن تلك المرحلة من تاريخ مصر، ولكننا لم ندرسها بامتياز لأننا غرقنا في حروب من الانطباعات ، وحروب الإنطباعات بطبيعتها غير علمية وغير دقيقة. ويبقي من تلك الفترة هو إحساس من أحبوا عبد الناصر أن أفكاره لا مسار حركته هي أمور يحتاجها أهل الجنوب الذين يعانون من مهانة إلقائهم من سقف العولمة في محيط الإنكار والعوز، ويبقي أيضا من تلك الفترة إحساس من كرهوا جمال عبد الناصر هذا الرفض النبيل لأي إهانة للإنسان حين يختلف مع الدولة سياسيا. وفي كل الحالات يظل اسمه جمال عبد الناصر، كحجر زاوية قام مع أحجار أخري مثل نهرو وسوكارنو وسيكتوري وتيتو وغيرهم ، كل هؤلاء قاموا برفع قيمة القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلي مصاف الحساب السياسي لا كأبناء لمستعمرات، ولكن كأصحاب حق في إدارة الكون مع الكبار.