عندما تقرأ هذا العنوان فلابد أنك -كمصري صالح- ستغضب وعندما تعرف أن من كتبه ليس مصرياً فلابد أن غضبك سيكون إلي استفزاز وتحفز. وهذا ما حدث معي أنا شخصياً في بداية الأمر عندما قرأت هذا العنوان الذي يرفع الضغط والسكر، ثم قرأت تحته اسم كاتبه الأستاذ شاكر النابلسي وهو كاتب أردني من مواليد ،1940 ودرس الآداب في مصر، وعمل بعدها لفترة ليست قصيرة بالسعودية، وتوجهاته القديمة ماركسية، إلا أنه سرعان ما حول بوصلته تجاه الغرب بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية وأصبح يصف نفسه بأنه "باحث ليبرالي في الفكر العربي" وانتقل إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية في السنوات الأخيرة وكتب العديد من المقالات المؤيدة والمتحمسة لأسوأ رئيس عرفته أمريكا وهو جورج بوش الابن مبرراً غزوه للعراق ومجمل سياساته الحمقاء. وعبر هذه التحولات ألف الرجل العديد من الكتب، بعضها يكتسب أهمية كبيرة وبخاصة في الدراسات النقدية مثل "فدوي تشتبك مع الشعر" دراسة في شعر فدوي طوقان، و"رغيف النار والحنطة" دراسة في الشعر العربي الحديث، و"الضوء واللعبة" دراسة في شعر نزار قباني، و"نبت الصمت" دراسة في الشعر السعودي الحديث، و"قامات النخيل" دراسة في شعر سعدي يوسف، و"مذهب للسيف ومذهب للحب" دراسة في أدب نجيب محفوظ، و"مدار الصحراء" دراسة في أدب عبدالرحمن منيف و"ثورة التراث" دراسة في فكر خالد محمد خالد.. وغيرها الكثير من الأعمال التي يمكن أن تختلف مع كثير من استنتاجاتها لكنك رغم هذا الاختلاف لابد وأنك ستحترم الجهد الكبير والاستثنائي المبذول فيها، والدأب الذي جعل صاحبها يعكف عليها آناء الليل وأطراف النهار. ومع ذلك فإن رؤية اسمه تحت هذا العنوان الاستفزازي "أيها المصريون: اعقلوا طويلا" جعلني أتحفز ضده، خاصة وأني اختلف مع كثير من أطروحاته الأخيرة كما أشرت سلفا. لكنني وجدت التحفز يتلاشي تدريجياً ليحل محله شعور بالرثاء للحال الذي وصلنا إليه نحن المصريون. فالرجل بدأ بالإعراب عن سروره لنيل الدكتور سيد القمني جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية مؤخرا، رغم اختلافه الفكري مع القمني، قبل أن يرضخ لتهديد المنظمات الإرهابية لقطع لسانه ورميه للكلاب، الأمر الذي جعل النابلسي يكتب مقالا شهيراً يهجو فيه القمني بعنوان "بئس المفكر الجبان أنت". كما أبدي سروره لنيل القمني هذه الجائزة الرفيعة رغم أنه لا يرقي -في نظره- إلي القامة العلمية في الإسلاميات لمحمد أركون، أو عبدالمجيد المشرفي، أو عزيز العظمة، أو نصر حامد أبو زيد. لكن ما استفزه هو مطالبة بعض الصحفيين ورجال الدين المصريين بسحب الجائزة من القمني ووصف هذه المطالبة بأنها عار علي مصر وعلي الثقافة المصرية في هذا الزمن المالح". مضيفاً أنه "كان الواجب علي من ينادون بسحب جائزة القمني أن يقوموا بالرد علي أقواله في كتبه، رداً علميا أكاديمياً، بدلاً من هذه البوليسية الحمقاء المتخلفة، التي لا تليق بمصر، ولا بالثقافة المصرية، ولا بتاريخ مصر الثقافي المجيد، ولكن هذا حال مصر مع علي عبدالرازق، وطه حسين، وعبدالعزيز فهمي، وأمين الخولي، وخالد محمد خالد، وخليل عبدالكريم وغيرهم". ويجب أن نعترف بأن ما قاله شاكر النابلسي في هذا الصدد صحيح مائة في المائة حتي لو كنا نختلف معه في كثير من آرائه واجتهاداته الفكرية. فقد وصلنا إلي الحضيض، حيث لم تعد هناك حصانة لحرية التعبير، ولا لحرية التفكير، ولا لحرية الاعتقاد. ولم يعد هناك احتراما للاختلاف في الرأي، ولا حرص علي الحوار مع الآخر بل أصبح "التكفير" و"التخوين" هو السلاح الذي يلجأ إليه الكثيرون، بما في ذلك من يفترض فيهم أنهم من فصيلة "المثقفين" فبدلاً من أن يحترم هؤلاء الاختلاف في الرأي، وبدلاً من أن يحرصوا علي الرد علي الحجة بالحجة، وعلي كتاب بكتاب، وعلي فكرة بفكرة، نجد هؤلاء يستقوون بالمؤسسة الدينية ويحرضونها علي خصومهم الفكريين، ويشجعونهاعلي اهدار دماء من يختلفون معهم بدلا من أن يحاوروهم أو يناقشوا أفكارهم. وهذا ما حدث في حالة السيد القمني حيث قام هؤلاء باستدراج مفتي الديار المصرية، ودار الافتاء بجلال قدرها، لاصدار فتوي بتجريم القمني، ووضعه علي طريق الكفر والعياذ بالله، أي اهدار دمه بالمختصر المفيد، واعطاء رخصة "شرعية" لأي مهووس بأن يغتاله اعتقاداً منه بأنه سينال فيه الأحر والثواب. كما قام المثقفون ذاتهم بمحاولة الزج بالقضاء من أجل استرداد الجائزة من القمني، وتأليب جميع السلطات الحكومية وغير الحكومية علي وزارة الثقافة التي منحته الجائزة. هذا السلوك "القمعي" لفصيل ليس صغيرا من "المثقفين" المصريين يبين أننا نعيش عصر الانحطاط الثقافي الذي يشهر فيه "المثقف" سوطه بدلا من أن يستخدم قلمه، ويستعدي فيه السلطة الدينية والسياسية علي زملائه بدلا من الحوار معهم. حتي الحوار إذا ما حدث أصبح حوارا عقيما ومنحطا، والدليل علي ذلك أن معظم البرامج الحوارية التي حاولت التصدي لهذا الموضوع أظهرت عبثية المشهد الثقافي، وأبرز ملامحه أن من يشنون الحرب علي القمني قد اعترفوا علي شاشات الفضائيات أنهم لم يقرأوا كتبه ومع ذلك فإنهم يمتلكون الجرأة للمطالبة بإهدار دمه!! إن سيد القمني ليس فوق مستوي النقد، وأنا شخصيا اختلف مع الكثير من اجتهاداته، لكنني أحترم حقه في التعبير عن رأيه، وأقف إلي جواره لمساندته في نيل هذا الحق في التعبير عن رأيه الذي أختلف معه. وهذا ليس اختراعا أوابتكارا، وإنما هو أمر أصبح من قبيل المسلمات في تاريخ وواقع أية جماعة ثقافية تحترم نفسها اليوم، فما بالك وأنه أمر مستقر في وجدان البشرية منذ عبر عنه فولتير بعبارته الشهيرة الخالدة. لذلك كله.. وليس بمناسبة سيد القمني فقط وإنما بمناسبة أمور كثيرة أكثر من الهم علي القلب، تصبح مقولة "أيها المصريون: اعقلوا قليلا"!. [email protected]