تحاول الدول محاربة الفساد بأشكاله المختلفة بسبب الخسائر الاقتصادية الباهظة التي تنتج عنه وتقدر بالمليارات فتكلفة الرشوة وحدها في الشركات المتعددة الجنسية وفقا لتقرير عن البنك الدولي تقدر بثمانين مليار دولار سنويا، وتخسر المؤسسات الأمريكية ثلاثين مليار دولار سنويا بسبب الفساد والرشوة حسبما تقول وزارة الخارجية الأمريكية، وإن الشركات الأمريكية خسرت في عامي 1994 و1995 مائة عقد بقيمة 140 مليار دولار. ويقدر البنك الدولي أن ما نسبته 3 - 5% من الدخل القومي الإجمالي في العالم يذهب كعوائد فساد، يقدر بأن هذا المبلغ في عام 2005 وصل إلي تريليون دولار، أما صندوق النقد الدولي فيقدر بأن 300 مليار دولار يذهب كعوائد غسيل أموال، أما البنك الآسيوي للتنمية فيقدر أن هذه النسبة تصل في آسيا التي تعتبر من مناطق الفقر في العالم إلي 18% من الدخل الإجمالي للدول. ومن منشورات البنك الدولي أن هناك تريليون دولار تدفع كرشاوي في كل عام، وقد أدي ذلك إلي اعتراف الأممالمتحدة والعواصم الأوروبية والأمريكية بمنظمات غير حكومية كشريك لها في مواجهة الفساد، وهذا لا يعني خلوها منه وهو الأمر الذي دفع بعض الحكومات والدول إلي إنشاء عدد من المنظمات غير الحكومية الموالية لها في هذا الاتجاه. وهو ما دفع أيضا إلي التوجه نحو الحوافز والوقاية والإصلاحات المؤسسية والتشريعية والتركيز علي المؤسسات العامة والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني في مقاومة هذه الظاهرة ويبقي الفساد المؤسساتي كما قال الدكتور كاشيجارد في كتابه "السيطرة علي الفساد" هو أسوأ أنواع الفساد لأنه يصبح ظاهرة مقننة محمية بالمؤسسات والقانون لأن القائمين علي هذه المؤسسات هم الذين يمسكون بزمام الأمور ويوجنون التشريعات والقوانين لخدمة مصالحهم.. وبسبب تفاقم وتفشي الفساد وفقد الاقتصاد العالمي لتريليونات الدولارات أجيزت ولأول مرة الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة الثامنة والخمسين لها في أكتوبر 2003 المعاهدة الدولية لمكافحة الفساد التي تجرم وتعاقب بنودها أي شكل من أشكال الفساد. مهمة صعبة وتعد عملية مكافحة الفساد ليست أمرا يتسم بالسهولة وخاصة إذا بلغ حدا معينا من التشابكات المعقدة بين عدة أطراف حكومية وغير حكومية محلية وخارجية. كما لا توجد في الوقت نفسه نماذج جاهزة لمكافحتها في أي مكان أو زمان.. إنما يمكن لأي محاولة من هذا القبيل أن تعطي نتائج إيجابية فيما لو توافرت قيادة سياسية حريصة علي حسن اختيار سياستها وحسن استخدام موارد مجتمعها ووجود شفافية في عمل الحكومة ومؤسساتها ومتابعة عمليات الرقابة والمساءلة القانونية. ويترافق ذلك كله بوجود أجهزة إعلام رسمية ومستقلة تقوم بمسئولياتها الوطنية لتساهم معا في تغيير اتجاهات الرأي العام في الدول التي تتفشي فيها مظاهر الفساد وتوجد العديد من تجارب الدول التي جندت الإعلام من أجل مكافحة الفساد والتخلص منه نسبيا. وهذا ما حصل في بريطانيا قرابة مائة عام وهذا ما فعلته أيضا كلا من هونج كونج وسنغافورة قبل 25 عاما. هونج كونج ومن أكثر التجارب في هذا الصدد تجربة هونج كونج نظرا للنتائج الباهرة التي حققتها في مكافحة الفساد الذي استوطن فيها منذ بداية النصف الثاني للقرن الماضي دون أن تستطيع أي جهة كانت التصدي له، إلي أن أدت فضيحة تورط فيها كبار ضباط الشرطة علي حث الحاكم العام حينها لتأليف "اللجنة المستقلة لمحاربة الفساد" عام 1974 علي أن ترفع تقاريرها مباشرة للحاكم ويتقاضي موظفوها المستقلون نهائيا عن الشرطة وبقية الأجهزة الحكومية مرتبات تزيد علي ما يتقاضاه موظفو الحكومة الآخرون ولا يمكن نقلهم لأي إدارة أخري أو السماح لهم بترك العمل والاستقالة ليعملوا لدي جهة أو شخصية تم التحقيق معها من قبل اللجنة ومن مهام اللجنة سلطة التحقيق والاتهام في قضايا الفساد وكذلك الإشراف علي حملات التوعية التي تقوم بها وسائل الإعلام المختلفة. وقد تأكد التزام الحكومة بالإصلاح وملاحقة الفساد من خلال تعيين شخص مشهود له بالاستقامة التي لا جدال فيها كأول رئيس للجنة بدأ التحقيقات والمحاكمات لما كان يعرف بالنمور الكبيرة وقوبلت بناء علي ذلك جهود اللجنة باعتراضات قوية من قوات الشرطة الأمر الذي جعلها تتهاون قليلا في المخالفات لكنها عادت إلي قوتها من جديد مع قيامها عبروسائل الإعلام بحملة توعية عامة قوية تبين في إثرها وحسب استطلاعات الرأي التي أجريت بهذا الشأن بأن تصورات الجمهور عن وجود الفساد قد انخفضت بشكل كبير.. كما أن الشواهد غير المباشرة بينت حدوث انخفاض كذلك في أنشطة الفساد.. وقد أدت آليات مكافحة الفساد في هونج كونج إلي ظهور مشاريع عملاقة مثل مشروع مطار سار الذي بلغت تكلفته حوالي 21 بليون دولار وعلي رغم من ذلك خلا تنفيذه من الفساد إلي حد كبير لأسباب لأن السلطة التي قامت علي تنفيذه شكلت لجنة من 1350 عضوا من المتخصصين، يدعمها قانون واضح يضرب بيد من حديد علي يد من يحاول الرشوة!