لاشك ان الاستماع إلي صرخات اليأس المتزايدة التي يطلقها بعض كبار رجال الأعمال الأمريكيين تجعلك تتصور ان القدرة التنافسية للشركات الأمريكية ستكون هي الضحية القادمة للأزمة المالية العالمية ولكن جيفري ايميلت رئيس شركة جنرال اليكتريك GE أكبر شركة صناعية فى العالم يرى أنه لا تزال هناك فرصة للانقاذ ففى احتفال أقيم فى نيويورك للإعلان عن أحدث مبتكراتGE في تكنولوجيا الرعاية الصحية منذ أيام قليلة قال ايميلت ان الشركات والبلدان التي تأخذ قضية التكنولوجيا والابتكار بجدية سوف تتفوق رغم كل شيء. وتقول مجلة "الايكونوميست" ان ايميلت بهذه الكلمات قد لمس الحوار الوطني الواسع الذي يدور في الولاياتالمتحدة منذ عدة اشهر فحتي قبل انفجار الأزمة المالية كان كثير من رجال الأعمال يبدون قلقهم من امكانية فقدان امريكا صدارتها في مجال الابتكار لصالح الهند والصين وكانوا منزعجين بشكل خاص من ان منافسيهم في آسيا ينفقون بحيوية متزايدة علي الاستثمار في تعليم الاجيال الجديدة من الشباب الرياضيات والعلوم كما يستثمرون كذلك بنفس الحيوية في الابحاث العلمية المتقدمة وفي العام الماضي اصدرت الاكاديمية الوطنية الامريكية للهندسة تقريرا يحذر من تلك العاصفة القادمة ويحاول ان يبرهن علي أن الأمن الاقتصادي والاستراتيجي الأمريكي قد أصبح موضع تساؤل نظرا لنقص الاستثمار. ولابد من الاعتراف بأن هذه الصيحات الأمريكية تزداد ارتفاعا وصخبا ففي يوم 11 نوفمبر الحالي صدر تقرير جامع عن مجلس التنافسية الامريكي وهي جماعة ذات نفوذ من رؤساء الشركات والجامعات وقادة العمال الامريكيين تناول هذه القضية وطالب الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما بأن "يتخذ خطوة جريئة جدا لاستعادة قدرة امريكا التنافسية خلال المائة يوم الأولي من حكمه". ولعله من المهم ان نشير الي ان كرايج باريت رئيس مجلس ادارة شركة اينتل اكبر شركة في العالم لانتاج الشرائح الكمبيوترية قد تبني نفس الدعوة وان ايريك شميث الرئيس التنفيذي لشركة جوجل عملاق الانترنت قد اكد في خطابه بواشنطن يوم 18 نوفمبر الجاري ان الابحاث الممولة حكوميا التي يتم اجراؤها في معامل الجامعات كانت هي الواجهة المركزية للتنافسية الأمريكية وانه بدون زيادة جوهرية في الاستثمار في هذه الابحاث وفي تعليم الرياضيات والعلوم فإن الأمريكيين يخاطرون بان يتحولوا الي مجرد مستهلكين مفتونين وبأن يبقوا تحت رحمة القوي المنافسة لهم في آسيا علي حد قول شميث في ذات الخطاب. ومع ذلك فإن هناك سؤالا مهما هو: هل هذا التراجع النسبي في وضع امريكا كقوة عظمي تكنولوجيا يمثل حقا تهديدا للرخاء الأمريكي؟ يقول امار بهيدي الاستاذ بكلية تجارة كولومبيا ان هذا كلام فارغ وفي كتابه الجديد المثير تحت عنوان "الاقتصاد المغامر" يشرح الرجل باصرار كيف يري ان هذه الفكرة المتشائمة تسيء فهم معني الابتكار من وجوه عديدة. فهو يري اولا ان التمسك بتوافر عدد معين من شهادات الدكتوراة والشهادات الفنية امر في غير محله لان الافكار والابتكارات "عالية المستوي" تنتشر بسهولة مع حرية التنقل عبر الحدود الوطنية وان الصين حتي لو انفقت ثروة كبيرة علي تدريب مزيد من العلماء فإنها لن تستطيع ان تمنع امريكا من الاستفادة باختراعاتهم عن طريق استخدام أساليب افضل لاستثمار هذه المخترعات وهو يري ثانيا ان استخدام ونشر واستغلال المخترعات للربح التجاري له قيمة اكبر بالنسبة للمجتمعات والشركات من مجرد تحقيق الاختراع وان تملك امريكا لانظمة متقدمة في التسويق والتوزيع والبيع وخدمة العملاء كان دائما يعطيها ميزة تنافسية حاسمة علي منافسيها مثل اليابان في ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأ اليابانيون آنذاك فخورين بتقدمهم التكنولوجي ويؤكد بهيدي ان ما تحتاجه امريكا هو مزيد من شهادات ماجستير إدارة الاعمال وليست شهادات الدكتوراة.. ويري الرجل من ناحية ثالثة ان امريكا لديها ميزة اخري وهي الرغبة غير العادية لمستهلكيها في تجربة الاشياء الجديدة ويقول ان هذا الاستهلاك المغامر هو المعادل الطبيعي لثقافة امريكا في مجال صنع المنظمين. ولكن مجلة "الايكونوميست" تتساءل: هل بهيدي علي حق؟ وتأخذ المجلة الرد من اقوال روبرت لبتان رئيس مؤسسة كاوفمان فاونديشان وهي مؤسسة لا تستهدف الربح واسهمت في تحويل ابحاث بهيدي فالرجل يقول ان بهيدي محق في معارضته لتحول الاختراعات الي صنم معبود فتوماس اديسون لم يخترع الجزء الزجاجي من المصباح الكهربائي وفورد لم يخترع السيارة ولكن كلاهما صنع ما صنعه عن طريق النموذج الشركاتي المبتكر الذي استخدمه لتحقيق الربح من هذه الاعاجيب وهناك شاهد آخر لصالح بهيدي هو جيفري ايميلت رئيس شركة جنرال اليكتريك الذي يقول ان شركته ليست عظيمة في الاختراع ولكنها متميزة في تحويل المشروع الذي قيمته 50 مليون دولار الي مشروع قيمته مليار دولار والشاهد الثالث هو آدم سيجال رئيس مجلس العلاقات الخارجية الذي يقول ان اجهزة "الحساس" التي يستخدمها الجنود الامريكيون لم تعد سرا تكنولوجيا ولكنهم يستخدمونها بطرق اكثر تقدما لا يجاريهم فيها الآخرون. واكثر من ذلك فإن هناك من يري ان العبرة ليست في "كم" شهادات الدكتوراة وانما في "كيف" او "جودة" هذه الشهادات وفوق ما تقدم تقول "الايكونوميست" ان الابتكارات لم تعد معركة يحصل فيها الفائز علي كل النقاط وانما علي العكس صناعة قابلة للعولمة حيث تتزايد الادلة علي ان صعود الاسواق الناشئة العملاقة مثل الصين والهند يمكن حتي ان يساعد شركات العالم الغني علي عولمة الابتكار. وفي قائمة هذا العام لأكبر الف شركة في العالم من حيث الاستثمار في الابحاث والتنمية وهي القائمة التي تصدرها منذ سنوات عديدة شركة الاستشارات الادارية بوزآند كومباني تحت اسم "جلوبال انوفيشان- 1000" يتبين ان الشركات المؤمنة بعولمة الابحاث اكثر كفاءة من تلك الشركات التي تركز انفاقها علي الابحاث داخل بلدها فقط وخلاصة القول ان هناك مخاوف امريكية وانقساما امريكيا ايضا بشأن مستقبل القدرة التنافسية الامريكية وهناك من يري مثل استاذ هارفارد كلايتون كريستنسين انه قد يأتي يوم تتفوق فيه شركات الهند والصين علي الشركات الامريكية تماما مثلما تمكن الكمبيوتر الشخصي من منافسة اجهزة المينفريم وازاحتها من السوق.