غياب المعلومات ونقص الشفافية مشكلة خطيرة تؤدي إلي مشكلات أخطر وتوجد مناخا كئيبا لا يفرخ سوي الشائعات والشكوك وزيادة انعدام الثقة. حتي عندما تقدم الحكومة علي اتخاذ خطوة طيبة يتكفل هذا "الغموض غير البناء" بتبديد فرحة الناس بهذه الخطوة الجيدة، بل وتفسيرها وفق نظرية المؤامرة انطلاقا من سوء الظن "التاريخي" بالبيروقراطية وألاعيبها، وهو سوء ظن له ما يبرره في كثير من الأحيان. وأحدث الأمثلة علي ذلك قرار المجلس الأعلي للطاقة برئاسة الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء يوم الثلاثاء الماضي بإلغاء مشروع "أجريوم" الذي كان من المزمع اقامته بمنطقة رأس البر، وعدم السماح بإقامة أية مشروعات صناعية بالمنطقة التي سبق تخصيصها للمشروع وإعطاء أولوية للمشروعات السياحية التي تتلاءم مع طبيعة منطقة رأس البر. هذه القرارات تمثل بلا شك خطوة رائعة لتلبية مطالب المجتمع المدني الدمياطي، وعندما تستجيب أية حكومة لمطالب شعبها فإنها تستحق التحية، مثلما يستحق الإشادة والتقدير ذلك المجتمع المدني الذي دافع عن مدينته ومنتجعه السياحي النادر في رأس البر، واستخدم في ذلك كل الوسائل الشرعية المتحضرة للتعبير عن رأيه في مواجهة شركة أجنبية عملاقة تتمتع بإمكانيات هائلة للتأثير علي الرأي العام كما تمتلك تحالفات ضخمة للضغط هنا وهناك ونشر الشائعات والمعلومات الخاطئة من أجل احداث البلبلة وشق الصفوف وتشويه صورة وسمعة المعارضين لمشروعها. كل هذا لم يضعف من عزيمة "الدمايطة" الذين اتحدوا وشكلوا جبهة شعبية عريضة تضم كل أطياف المجتمع الدمياطي بما في ذلك الحزب الوطني وأحزاب المعارضة والمستقلين. وجاء قرار المجلس الأعلي للطاقة تتويجا لدفاعهم عن مدينتهم وعن تمسكهم ببقاء رأس البر منتجعا سياحيا نظيفا. والأهم هو أن هذا القرار جاء بمثابة تسليم من الحكومة بصحة وجهة نظر أهالي دمياط التي تمسكوا بها ودافعوا عنها طويلا في مواجهة حملات شرسة من التشكيك. وهذا يعني -بعبارة أخري- اعترافا من الحكومة بأنها أخطأت في اختيار هذا الموقع في جزيرة رأس البر لإنشاء مصنع اليوريا والأمونيا عليه وإعطاء موافقات لشركة أجريوم لإقامته في هذه المنطقة بالذات. واعتراف الحكومة بخطئها -ولو ضمنيا- يحسب لها ولا يحسب عليها. وكانت حكومة أحمد نظيف تستحق أن نرفع لها القبعة لنزولها علي رغبة المجتمع المدني الدمياطي التي حظيت بتأييد الرأي العام في عموم مصر بصرف النظر عن "الموالاة" و"المعارضة". لكن الحلو لا يكتمل في بلادنا.. كما يقول المثل الشعبي المصري.. فقد شاء المجلس الأعلي للطاقة أن يكون نصفه الآخر -بعد النصف الحلو الذي أشرنا إليه- هو قوله أنه "تقرر كذلك قيام شركة موبكو المصرية باتمام الاتفاق الذي تم التفاوض عليه مع شركة أجريوم للاستحواذ علي أسهم الشركة وتنفيذ الخطط الخاصة بالشركة علي الأرض المخصصة لها بالمنطقة الصناعية الواقعة عبر القناة الملاحية بما يحقق مزايا فنية واقتصادية كبيرة لمصر". ومفهوم ان القناة الملاحية المشار إليها يبلغ عرضها 116 مترا هي كل المسافة التي تفصل بين الموقع الذي احتلته شركة أجريوم في جزيرة رأس البر وبين موقع شركة موبكو داخل المنطقة الصناعية الواقعة علي الضفة الأخري للقناة. وهذا معناه أن مصنع شركة أجريوم سيتم نقله من هذه الضفة للقناة إلي الضفة الثانية.. وليس أكثر! ومع ذلك فإن هذا ليس هو المهم.. بل المهم حقا هو ما يتسم به الإعلان الصادر عن المجلس الأعلي للطاقة من غموض مستفز. فما هو الاتفاق "الذي تم التفاوض عليه مع شركة أجريوم"؟ ومن الذي قام بهذه المفاوضات؟ وما شروط، وتكلفة، الاستحواذ علي أسهم الشركة؟ بل من سيستحوذ علي من أصلا؟ هل ستستحوذ موبكو علي أجريوم أم العكس؟ وبأي قيمة؟! وهل سيتلافي انتقال "أجريوم" من الضفة الشرقية إلي الضفة الغربية للقناة الملاحية كل الملاحظات والتخوفات البيئية التي حذرنا منها أهالي دمياط وتقرير لجنة تقصي الحقائق التي أوفدها مجلس الشعب؟ وهل سيتلافي اختفاء اسم أجريوم أو اخفائه تحت لافتة "موبكو" الملاحظات الكثيرة حول الشروط المجحفة التي حصلت بها أجريوم علي اتفاقيات لتزويدها بالغاز الطبيعي بأسعار بخسة تقل عن سدس أو سبع الأسعار العالمية، وتضيع علي الخزانة العامة بالتالي مليارات الجنيهات تحصل عليها الشركة الكندية "كدعم" لا نفهم له سببا منطقيا، ناهيك عن حصولها علي مليارات الأمتار المكعبة من المياة العذبة لنهر النيل مجانا في وقت نشكوا فيه من مجاعة مائية. كل هذه الأسئلة لم يقدم بيان المجلس الأعلي للطاقة إجابة واحدة عنها، ولم يبدد غموضها تصريح رسمي من رئيس الوزراء أو من أحد وزرائه. والأدهي والأمر أن البيان المشار إليه الصادر عن المجلس الأعلي للطاقة صدر يوم الثلاثاء الماضي كما قلنا، وفي اليوم التالي -أي يوم الأربعاء الموافق 6 أغسطس- نقلت صحيفة "كالجاري هيرالد" الكندية عن شركة أجريوم التي يوجد مقرها الرئيسي في "كالجاري" تأكيدها بأنها لم تبرم أي اتفاق مع الحكومة المصرية بهذا الصدد. كما نقلت الصحيفة عن ريتشارد داوني أحد كبار المديرين المسئولين عن الاستثمار بالشركة قوله إن المحادثات الخاصة بمطالبة الشركة بتعويض عن عدم اقامة المصنع في رأس البر مازالت مستمرة، مضيفا "انه لم يتم التوصل بعد إلي أي شيء فيما يتعلق بأجريوم مصر، لكن هناك تقدما يتم احرازه في المحادثات". هذا ما يقوله الجانب الكندي، وهذا الذي يقوله ليس هو الحقيقة بالضرورة، فربما يكون كذبا في كذب، وربما لا يكون كذلك. فلماذا يصمت المسئولون في حكومة أحمد نظيف، ويتركون المسألة سداحاً مداحاً، ومجالا خصبا للقيل والقال، والشائعات والتكهنات؟! ولماذا تصر حكومة الدكتور أحمد نظيف علي وضع نفسها في موضع الشبهات بتمسكها بالصوم عن الكلام والامتناع عن تقديم أية معلومات من حق الدمايطة وكل المصريين الحصول عليها؟! ثم لماذا تشكو الحكومة من "تقولات" المعارضة و"ملاسناتها" و"الافتراء" عليها رغم انها هي التي تعطي الجميع هذا الحق بإحجامها عن الافصاح ومخاصمتها للشفافية في أمور ليس فيها "أسرار حربية"، بل مجرد "بيزنس" يتعلق بمصنع لانتاج الأسمدة وليس الصواريخ العابرة للقارات أو الأسلحة النووية؟! [email protected]