شكلت التطورات الأخيرة في قطاع غزة والضفة الغربية والتي شملتها اعتقالات متبادلة لكل من حركتي فتح وحماس تحولا نوعيا في سياسة السلطتين في كل من الضفة والقطاع، مما ينبئ بتكريس الانقسام، وصعوبة تحقيق أي تقدم في الحوار الوطني المرتقب في مصر، وتواصل التدهور الأمني في الاراضي الفلسطينية خصوصا في قطاع غزة ليأخذ منحي اكثر خطورة، العلاقة بين فتح وحماس بلغت مستوي جديدا من التدهور يعيد إلي الاذهان عهد الانفلات الأمني والخطف والميليشيات التي كانت منتشرة في قطاع غزة قبل سيطرة حماس عليه في يونية من العام الماضي، هذا التصعيد بين الحركتين ربما جاء كجولة أخيرة بينهما قبل بدء الحوار إذ ترغب الحركتان في التصعيد من اجل دفع جهة عربية لتبني الحوار الفلسطيني الداخلي، رغم ان التصعيد الذي حدث وتسارعت وتيرته لا ينبئ بأن الاوضاع قد نضجت لبدء حوار داخلي من أي نوع. ولا نبالغ لو قلنا ان ما يحدث في الساحة الفلسطينية حالة من الجنون، وتجاوزتها الاحداث لتصل إلي حد الهستيريا غير المسبوقة، بعدما غادرها العقل والمنطق، ولم تعد المواصفات والمعايير التي تعود عليها الفلسطينيون سنوات طويلة تكفي أو تتناسب مع هذه الحالة الهستيرية من حالة التدمير الذاتي التي تخوضها بنجاح وحالة من الانتقام العشوائي والفلتان الهستيري، وضياع البوصلة، وفقدان الاتزان. الوساطات المتعددة عجزت عن تحقيق أهدافها لتكشف عورة الوضع الفلسطيني، بقدر ما تكشف فصائل باتت عقيمة، وغير ذات جدوي أو حتي حضور، فالفصائل الموجودة لم تعد قادرة علي ان تكون وسيطا بعدما فشلت في ان تكون ملحقا وتابعا لهذا الطرف أو ذاك، ورغم استمرارها في الوساطة، إلا انه محكوم عليها بالفشل لانعدام التأثير والفعل علي الارض، وابرز مثال علي ذلك قيام حركة الجهاد الاسلامي بدور بارز في الوساطة وتحلت بشجاعة كافية لتقول إن وساطتها حتي الآن فشلت في التوصل إلي توافق أولي، ويبدو ان الامر تجاوز كل المساعي والوساطات ولم يعد بالامكان وقف النزيف إلا بعد تحقيق الاهداف الي حددتها الاطراف المتنازعة وهي أهداف من الصعب ادراكها، فربما تكون حكومة حماس وقبلها حركتها قد ادركت ان تحرير فلسطين لا يمر إلا عبر تحرير قطاع غزة من فتح والجهاد والديمقراطية فكل هذه القوي، ومن دون ذلك لا يمكن للتحرير ان يتم، وهكذا قررت حركة حماس شن حرب تحرير القطاع اعتقالا وقتلا واغلاقا للمؤسسات والجمعيات بفعل منهج القوة الذي استندت عليه، وأخذت به العلاقة الداخلية،لكن ذلك لم يمنع خشيتها من رد الفعل لمجتمع محكوم بثقافة الثأر، بكل معني الكلمة إذا ما اصاب الحركة الضعف أو قوي خصومها، وهذا جعلها تتصرف ليس كسلطة، وانما كرد فعل علي خوف قادم ويعزز ذلك التفسير رد فعل الحركة علي انفجار الشاطئ، والذي وقع ايضا في اطار ثقافة الثأر الذي طال كل من لا يقول نعم لحماس أو يسير في خطها المستقيم وكان من الطبيعي ان يقابل ذلك ثأر أكثر عنفا وقسوة في المناطق التي تسيطر عليها فتح قامت الاخيرة عبر السلطة بشن حملة اعتقالات مضادة لقيادات حماس في الضفة، في تطور خطير هدد مسلحون باعدام الدكتور محمد غزال أحد قادة حماس في الضفة مالم توقف حماس حملتها عن عائلة حلس في القطاع، وهو تطور يشكل مؤشرا إلي عودة الميليشيات للعمل في الضفة الغربية ايضا، بعد فترة غياب طويل اعقب الخطة الامنية الحكومية الرامية إلي اعادة فرض النظام والقانون. منظمات حقوق الانسان العاملة في الاراضي المحتلة حذرت عن هذا التدهور الخطير ووصوله إلي مراحل حرجة وخطيرة علي المجتمع الفلسطيني، فالاجراءات التي تحدث في قطاع غزة والضفة والتصريحات التي تواكبها تشكل خرقا فاضحا لحقوق الانسان وتكريسا لنزوع خطير لانتهاك القانون، وتصريحات قادة حماس في غزة، ومنها تصريحات الناطق باسم الحركة بشير المصري عن استخدام عقوبة الاعدام وتصريحات الناطق الرسمي سامي أبوزهري عن اعتقال قادة فتح تصل إلي حد خرق القانون الدولي ان الاعدامات إذا حدثت وبشكل متبادل بين الطرفين ستؤدي إلي حدوث تدهور علي غرار ما كان يجري في السبعينيات في دول افريقيا وامريكا اللاتينية قبل الخصوم السياسية، وأخذ الرهائن، مما يشكل خرقا للقانون الدولي، ويفتح الطريق امام محاكمات دولية في الخارج لمرتكبيه. لقد حذرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير صدر عنها بعد الاحداث من تجاوزات حركتي فتح وحماس وقوي الأمن التابعة لها، وتضمن التقرير مطلبا مهما إذ طالب الذين يدعمون الحركتين بربط مساعدتهم بوقف الانتهاكات ضد المواطن الفلسطيني، ويلقي هذا المطلب الصدي والاذان الصاغية لدي المعنيين معتبرينه مطلبا عادلا ويجب ان يؤخذ بجدية خاصة من قبل الدول العربية خصوصا السعودية ودول الخليج التي تعتبر اهم داعم للشعب الفلسطيني. لكن في الوقت ذاته يعني مقاطعة الشعب الفلسطيني إذا ما ربط الدعم بوقف الانتهاكات والتسلط ضد المواطنين الفلسطينيين، حجة قوية للدول المانحة لتنفض يدها عن تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني والتي هي شحيحة أصلا، خاصة بعد الطلب الذي تقدمت به السلطة بقيادة رئيس وزرائها د. سلام فياض مطالبا فيه الدول المانحة بإرسال رواتب الموظفين التي نضبت، لانها لا ترسل بانتظام، وتعلل بحسابات خاصة. إن الشعب الفلسطيني اليوم يعاقب باكمله وبفعل أبنائه أنفسهم، وقد يصل الامر إلي فرض العزلة عليه ليس من جانب اسرائيل فحسب، وانما من ذوي القربي من الدول الداعمة له بعد يأسها من الوساطة وامكانية الاصلاح، فقد انشغل القائمون علي الشعب بتأجيج خلافاتهم، ومحاولة الهيمنة علي السلطة بأي وسيلة متناسين شعبا يرزح تحت نير الاحتلال قابعا في ظلام الجوع والفقر والمرض والانفلات الأمني والحصار، وبدلا من محاربة مقومات الظلم هذه ممن فرضوها عليه من الخارج متمثلا بالدرجة الاولي في اسرائيل والولايات المتحدة اصبح لزاما عليهم التنبه ان ظلم ذوي القربي ظلم المجاهدين والمناضلين الذي اوصلهم عنادهم وتعسفهم وسوق التبريرات إلي شق الوطن وربما انهياره بالكامل.