مازالت في هذا الصيف الحار اتذكر أياما كانت حرارتها مريرة، وهي أيام ما بعد يونيه 1967 وجاء يوليه ثم تلاه اغسطس، ولم يكن هناك من يتصور أن المصريين قادرون علي الخروج من مأزق هزيمة يونيه الصاعق. ولكنهم خرجوا. لم أكن مع المقاتلين حين عبروا لأول مرة بعد الهزيمة قناة السويس، ولكن كان هناك ميلاد لفريق قتال مصري نادر بقيادة ابراهيم الرفاعي، البطل المقاتل المصري الذي لم أره رؤي العين، ولكني رأيت اثنين من رفاقه وأحببت الاثنين، وهما الكاتب الكبير عبده مباشر والمقاتل الصلب إسلام توفيق، وقد كتب الاثنان كتابا نادرا عن تلك الحرب التي لم نوفها حقها في التسجيل، واعني بها حرب الاستنزاف. مازالت أذكر كيف كان صديقي العميد عدلي شريف المسئول عن الصليب الأحمر يأتي لنا بالحكايات عن العبور، وطبعا حكايات لم تكن للنشر، فقط تعرف اسرائيل حجم خسائرها من تجارب اقتحام قناة السويس، واتذكر كيف كنا نسترد كمجموعة اصدقاء احساسنا بالكرامة الانسانية عندما يهل علينا عدلي شريف، ولم نكن نعلم كل التفاصيل، فقط كنا نعلم أن هنا من يعبرون، وهناك من يقاتلون، وان اسرائيل ليست بالقوة الخيالية التي كنا نظنها. وكانت كلمات عدلي شريف تنتشلنا من هوة اليأس المظلم التي سقطنا فيها جميعا في تلك الأيام. وفوجئنا ذات يوم بأن عدلي شريف لم يعد يحكي عن المقاتلين، فخفنا أن يكون القتال الليلي شبه الأسبوعي قد توقف، ولكن الحكاية لم تكن توقف قتال، بل كانت انتظارا للاعلان عن بعض الانتصارات التي تحدث في أرض سيناء. وكان اغسطس في تلك الأيام يحمل مرارة محاولة المشير عبد الحكيم عامر للسيطرة من جديد علي الحكم في مصر، وعشنا في تلك الأيام قلقا بالغا بين ما دفعناه من دماء في سيناء، وبين محاولة واحد من كبار صناع الهزيمة أن يعود من جديد ليكرر ما فعله في عام ،1956 ثم في أحداث انفصال سوريا عن مصر، ثم توج مشاركته في العمل العام بانغماس لا محل له في أمور الداخل، وكانت النتيجة هي الهزيمة المريرة. ومن المؤكد أن طبيعة العلاقة الخاصة بين عبد الحكيم عامر جمال عبد الناصر لم تتم دراستها علميا حتي كتابة هذه السطور، فكيف استطاع عبد الحكيم أن يشارك كل تلك السنوات مع جمال عبد الناصر، ثم فقد عبد الناصر القدرة علي عزله من موقعه؟ تلك الحكاية تحتاج إلي دراسة كاملة علي أية حال. غسل المصريون احساسهم بالهزيمة سريعا، وكنا نشم رياح النصر بعد كل عودة من المقاتلين الذين جعلوا حياة الاسرائيليين علي الضفة الاخري من قناة السويس جحيما لا يطاق. وكلما جاء اغسطس تعود الذاكرة إلي تلك الأيام بما فيها من شجن مواجهة عدو يملك من الصلافة فوق الخيال، ولكن الرجال جعلوه يشعر أن بقاءه في سيناء هو المستحيل. عشت تلك الأيام كشاهد من بعيد، واتمني أن يكتبها من شارك فيها بكل التفاصيل، فنحن في حاجة لمعرفة كيف ولد النصر من قلب هزيمة سوداء.