مجلس الدولة هيئة قضائية مرموقة ورفيعة المستوي، ويشكل أحد أضلاع مثلث الهيئات القضائية في مصر الذي يشمل المحكمة الدستورية العليا والقضاء ومجلس الدولة. وفي حين تمثل المحكمة الدستورية العليا الهيئة القضائية المنوط بها النظر في دستورية القوانين واللوائح وتفسير النصوص التشريعية، وتختص بالفصل فيما يتعلق بذلك من نزاعات. وبينما تقوم المحاكم بفرعيها المدني والجنائي بالفصل في جميع المنازعات المدنية علي اختلاف أنواعها، والجنائية المتعلقة بالجرائم المقررة قانوناً من خلال المحاكم الجزئية والابتدائية والاستئنافية ومحكمة النقض والنيابة العامة. يشكل مجلس الدولة والقضاء الإداري وسيلة الإنصاف القضائية الذي يتيح للمواطنين الطعن علي كل ما يصدر من السلطة التنفيذية من قرارات، سواء كانت صادرة بشكل إيجابي أو سلبي أو بالامتناع عن إصدار القرار أو القيام بالإجراء المطلوب. وهو بهذا الشكل الملاذ الذي يلجأ إليه المواطنون بحثا عن الإنصاف من تعسف السلطة أو وقوع قراراتها أو لوائحها في أخطاء تتنافي مع المبادئ الدستورية والقواعد القانونية. إذن مجلس الدولة هيئة قضائية تهم كل مواطن في مصر يمكن أن يدخل في نزاع مع الحكومة لأي سبب من الأسباب. ولذلك ضمنت المادة 172 من الدستور "استقلال" هذه الهيئة القضائية المرموقة، لأنها إذا لم تكن "مستقلة" فإنها لا تستطيع أن تنتزع حقوق الناس من براثن الحكومة وشتي فروع السلطة التنفيذية. ولهذا نص القانون علي أن أعضاء مجلس الدولة غير قابلين للعزل وتسري عليهم جميع الضمانات التي يتمتع بها رجال القضاء ويقوم علي شئونهم "مجلس خاص" ويختص بتأديبهم مجلس تأديب خاص. وبموجب القانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة يتشكل هذا المجلس الموقر من ثلاثة أقسام هي القضائي، والفتوي، والتشريع، ويتكون القسم القضائي من المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية والتأديبية وهيئة مفوضي الدولة. * * * ولأن الأمر بهذه الأهمية والخطورة.. فإنه لم يكن من باب الصدفة أن يتساءل الرأي العام المصري عن من سيكون رئيساً لمجلس الدولة بعد خلو هذا المنصب الرفيع إثر وفاة المستشار سيد نوفل رئيس المجلس في فرنسا يوم الأربعاء الماضي بعد صراع مرير مع السرطان اللعين. ثم ازدادت درجة الاهتمام الشعبي بعد أن تحولت خلافة المستشار سيد نوفل إلي أزمة. وقد عرضت الزميلة وفاء شعيرة بالعدد الأخير من مجلة "روزاليوسف" المعالم الرئيسية لهذه الأزمة المعقدة والمتشابكة بقولها: إن هناك أسبابا متعددة أدت إليها.. من بينها عدم وضوح نصوص قانون مجلس الدولة 47 لسنة 1972 في حالة وفاة رئيس المجلس وهو في منصبه ومن يخلفه، وإن كانت المادة 68 مكرر تؤكد علي أن إنشاء "مجلس خاص" للشئون الإدارية برئاسة رئيس مجلس الدولة وعضوية أقدم ستة من نواب رئيس المجلس عند غياب أحدهم أو وجود مانع لديه يحل محله الأقدم فالأقدم من نواب رئيس المجلس. وبناء علي نص هذه المادة فإن قاعدة "الأقدم فالأقدم" جعلت كلا من المستشار نبيل ميرهم النائب الأول لرئيس مجلس الدولة ورئيس الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع، والمستشار محمد الحسيني رئيس محاكم القضاء الإداري بالمجلس المرشحين الأساسيين للرئاسة. والمشكلة هنا أنه عند غياب المستشار سيد نوفل رحمه الله لفترات طويلة كان المستشار "الحسيني" هو الذي يرأس المجلس نظراً لمرض المستشار "ميرهم" الأقدم والذي يعاني من ضعف شديد في نظره. وكان هذا يحدث رغم أن المستشار الحسيني كان هو الآخر يعاني من مرض في عينيه اضطره لترك رئاسة الدائرة الأولي لمحكمة القضاء الإداري التي يتولاها لنائبه المستشار أحمد الشاذلي. باختصار.. حسب النص القانوني، والتقاليد والأعراف المعمول بها في السابق، كان الطبيعي والمنطقي أن يتولي رئاسة المجلس المستشار نبيل ميرهم لكن "المجلس الخاص" ضحي بهذه التقاليد بحجة ضعف بصره، وتساءل بعض المستشارين: هل يستطيع المستشار ميرهم أن يترأس المحكمة الإدارية العليا، خاصة أن رئيس المجلس يتولي أيضا رئاسة المحكمة الإدارية العليا طبقا لقانون مجلس الدولة، مع علم الجميع بأن حالة بصره قد لا تمكنه من تأدية مهام رئاسته للمحكمة الإدارية بسبب هذه الحالة، خاصة أنه عندما كان يرأس مجلس تأديب اعترض أحد مستشاري المجلس علي رئاسته وطالبه بالتنحي لأنه لم يستطع أن يقرأ الدعوة بنفسه وبالتالي لم يستق الحكم بنفسه وهنا قد يحدث تأثير علي عقيدته فتنحي عن مجالس التأديب. لكن المستشار ميرهم رد عليهم بأنه يمكن أن يتنحي عن رئاسة المحكمة الإدارية العليا في حالة توليه رئاسة مجلس الدولة فتسقط هذه الحجة. ودافع آخرون عن حقه في رئاسة المجلس رغم ضعف بصره استنادا إلي أنه رئيس الجمعية العمومية للفتوي ويرأس جميع إدارات الفتوي علي مستوي الجمهورية ويراجع جميع الفتاوي ولم تحدث أي مشكلات رغم حالته الصحية. وفي ضوء هذه الحجة الأخيرة ننتقل رأساً إلي التساؤل الذي بدأ يطرحه البعض إزاء هذه الصورة المعقدة. هذا التساؤل، وبصراحة مطلقة، هو: هل السبب في صرف النظر عن قاعدة "الأقدم فالأقدم" هو أن المستشار نبيل ميرهم قبطي وأن أصحاب الاتجاهات الأصولية التي عبرت عن معارضتها صراحة من قبل في تولي غير المسلمين منصب القضاء هم الذين بالغوا في مسألة قوة إبصار المستشار ميرهم، الذي كان بالصدفة البحتة قبطياً؟! أرجو أن تكون إجابة هذا السؤال بالنفي القاطع، لأني أنا شخصيا لا أريد أن أصدق أن تكون هذه المؤسسة القضائية المرموقة، التي هي لجميع المصريين بصرف النظر عن دياناتهم وعقائدهم، قد تعرضت لمثل هذا الاختراق الذي يتناقض "منطقه" مع ألف باء مبادئ العدالة والنزاهة واستقلالية القضاء. ومع إيماني الذي لا يتزعزع بأن هذا التساؤل لا محل له من الإعراب.. فإن ذلك لا يمنع طرح سؤال آخر هو: مادام أن "الأقدم" الآن في مجلس الدولة هو مواطن مصري بالضرورة، وقبطي بالمصادفة، فلماذا لا نطبق قاعدة "الأقدم فالأقدم" لكي نريح ونستريح ونقطع الطريق علي المزايدين والمتطرفين وذوي النوايا السيئة في الداخل والخارج حتي لو كان نظره "شيش بيش"؟! فضعف البصر له ألف حل وحل.. وأما عمي البصيرة فقد أعيت من يداويها. ولتسلمي يا مصر. [email protected]