يدور جدل في المجتمع الآن حول حاضر الحكومة ومستقبلها وذلك في أعقاب مجموعة من الأوضاع الاقتصادية المضطربة التي أصابت بشكل مباشر شريحة من الفقراء والعمال والفلاحين، وباختصار الكتلة الحرجة من المصريين، ويثير النقاش تساؤلا كبيرا عن دور الحكومة في الاستعداد لمواجهة أزمة الغذاء التي تحذر منها كل مؤسسات العالم وتري أنها سوف تعصف بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيما لا يقل عن 33 دولة نامية ولسنوات طويلة، وهناك اجماع علي ضرورة ان تجعل الحكومة المجتمع والاقتصاد يعملان بكفاءة أعلي وبشكل انساني أكثر مما عليه الحال اليوم، فالحكومة يجب ان تلعب دورا ملموسا ليس فقط في تخفيف حالات فشل الأسواق، ولكن أيضا في تأمين العدالة الاجتماعية، ان آليات السوق في حد ذاتها تترك العديد من الاشخاص بموارد قليلة جدا لا تمكنهم من البقاء لذا فقد قامت الحكومات في البلدان الاكثر نجاحا، مثل الولاياتالمتحدة وبلدان شرق آسيا بهذه الادوار حيث تقدم تعليما عالي النوعية للجميع وتقيم جزءا كبيرا من البنية التحتية بما في ذلك البنية الاساسية المؤسسية، والنظام القانوني وهو النظام المطلوب لكي تعمل الاسواق بشكل فعال، وتنظم القطاع المالي حتي تضمن بشكل اكبر ان تعمل أسواق رأس المال بالكفاءة المطلوبة كما توفر شبكة امان للفقراء، وتشجع التكنولوجيا بدءا من الاتصالات عن بعد إلي الزراعة البسيطة في الريف، ان انصار أصولية السوق في مصر يؤكدون علي أن اوجه عدم كفاءة الأسواق صغيرة نسبيا وأوجه عدم كفاءة الحكومة كجزء من المشكلة اكثر منها جزءا من الحل، فالحكومة ملومة علي البطالة وتدني الاجور وتنامي مستويات الفقر والفساد الذي طال الاتجار في اقوات الفقراء والمعدمين، وأيا كانت مرحلة النمو السياسي والاقتصادي لبلد ما، فإن الحكومة يجب ان تحدث توازنا كليا دقيقا وتحافظ عليه، لأن كل من الحكومات الضعيفة والحكومات المغالية في التدخل، تؤذي الاستقرار والنمو فلقد كان مرجع أزمة القروض في مصر هو غياب النظم واللوائح المناسبة في القطاع المالي في حين يرجع ظهور مافيا الدقيق المدعم والاستيلاء علي اراضي الدولة الي فشل الحكومة في تطبيق المبادئ الاساسية لنظام مساءلة قانوني حازم كما ان التسرع في الخصخصة بدون البنية التحتية المؤسسة اللازمة أدت إلي نهب الاصول بدلا من ايجاد الثروة، وان الاحتكارات الخاصة بدون تنظيم لها اثبتت انها أكثر من 70% من طلاب الشهادة الثانوية يسلكون مسار التعليم الأدبي في الوقت الذي تنفتح فيه كل المجتمعات علي العلوم والتكنولوجيا، وتفيد احصائيات عام 2006 أن عدد الطلاب بالكليات العملية بلغ 397606 طالباً والكليات النظرية 1012353 طالبا بنسبة 26% إلي 74% بينما تقترب النسب العالمية إلي 80% لصالح كليات العلوم والرياضيات، وما يثير الدهشة ذلك الشعور الدائم لدي الحكومة بأنها لا تحتاج إلي تلقي تلك الدروس لانها تعرف الاجابات، واذا قدم لها الدليل علي أن انجازاتها لا تنعكس علي واقع الأحوال والاسواق فإنها ترفض هذا الدليل وتعتبر ان ذلك مجرد ثمن التكيف، وجزء من الألم الذي يتعين قبوله في مرحلة التحول إلي اقتصاد السوق، ومن الواضح ان غياب المناقشة الصريحة بين الحكومة وشركائها الاجتماعيين يعني ان النماذج والسياسات التي تطبقها لا تخضع للنقد في الوقت المناسب ولا تلقي قبولا جماهيريا، كما ان اصرار الحكومة علي احتكار حقيقية الاوضاع وامتلاكها الدائم للرؤية الصائبة يمكن ان تكون له عواقب خطيرة ان لم تكن عاصفة. كفاءة السوق ان الشروط المطلوبة للتحول إلي السوق الحر غير متوافرة في مصر، فنظام السوق يتطلب توافر حقوق ملكية راسخة بوضوح، ومحاكم متخصصة تدعم هذه الحقوق، واجهزة رقابية فاعلة كما يتطلب نظام منافسة ومعلومات مثالية فالمنافسة محدودة في مصر والمعلومات أبعد ما تكون عن الصحة أو الدقة، وتقول كل النظريات الاقتصادية ان اقامة اقتصاد سوق كفء تتطلب تحقيق كل تلك الافتراضات، ومن خلال نسق منهجي متتال، لانه وفي بعض الحالات، قد يؤدي القيام بإصلاحات في مجال ما دون أن يصاحب ذلك اصلاحات في مجالات اخري، إلي أن تصبح الأمور، في نهاية المطاف، أسوأ مما كانت عليه هذه هي قضية تعاقب مراحل التحول غير ان الايديولوجيا المصرية تتجاهل هذه الأمور، فهي تقول ببساطة: تحرك بأسرع ما يمكن نحو اقتصاد السوق لكن التجربة والتاريخ يبينان إلي أي مدي أدي تجاهل تعاقب المراحل في مصر إلي مشكلات ظهرت وبوضوح في الانفلات غير المبرر في الأسعار التي حررت قبل أن تقام المؤسسات الرقابية التي تحفظ حقوق المستهلكين، وقبل ان تناقش قضايا الأجور المرتبطة بمستويات المعيشة، لقد اثبتت ازمة رغيف الخبز التسيب الهائل في رقابة الأسواق حيث قدر حجم كميات الدقيق المدعوم التي تهرب لتباع بالسوق السوداء لصالح مجموعات المنتفعين واللصوص علي جميع المستويات بأكثر من 60% من الكميات المقررة أي ما يساوي 9 مليارات جنيه سنويا من اجمالي دعم الخبز البالغ 15 مليارا، كما ان لاستغلال العلني في سعر انبوبة البوتاجاز في الأسواق الذي يصل إلي تحقيق ربح يصل إلي 5 جنيهات في كل اسطوانة، مع العلم بأن البوتاجاز مدعوم بمقدار 8.9 مليار جنيه مصري، إن بلدان شرق آسيا النامية وهي أكثر البلدان النامية نجاحا، قد انفتحت علي العالم الخارجي لكنها فعلت ذلك بتمهل وبطريقة تدريجية، وقد استفادت هذه البلدان من العولمة لتوسيع صادراتها، ونمت نتيجة لذلك بسرعة أكبر، ورفضت وصفات صندوق النقد الدولي، وازالت الحواجز الحمائية بحرص ومنهجية، بحيث لم يتم ذلك إلا بعد ايجاد فرق عمل جديدة، وكان المسئولون فيها يتأكدون من وجود رأس مال متاح لايجاد فرص عمل ومشروعات جديدة، بل ان هذه البلدان قامت بدور المقاول في تأسيس الشركات الجديدة، ان عدم تفعيل قوانين السوق أدي إلي ان اصبح المستهلك فريسة في يد سماسرة الدعم والسلع المغشوشة والمهربة والضارة بصحة المواطنين، ومنظومة الفساد الشاملة بالمحليات التي زرعت اليأس مواطن وكل مواطن عن امكانية تقدير أي تكلفة سواء لمشروع خاص أو غير ذلك، وعموما فإن هذا التساؤل الخطير يفتح ملفات كبيرة مثل لماذا لا يصل الدعم الذي بلغ 84 مليار دولار إلي مستحقيه..؟ لماذا يتساوي الاغنياء مع كل الفئات في سعر موحد للضريبة العامة؟.. لماذا لا تحصل الدولة علي مستحقاتها التي بلغت 66 مليار جنيه من القادرين..؟ لماذا اصبحت الوظائف العامة بالحكومة وفي كل القطاعات حكرا موروثا علي أبناء موظفيها واصحاب السلطة بها ابتداء بقطاع الفنون والاعلام وانتهاء بالوزارات السيادية بالدولة..؟ لماذا تجحم البنوك عن اقراض صغار المستثمرين؟.