رغم برودة الجو التي تصل الي حد التجمد في جزيرة أولكيلوتو الفنلندية فإن العمل يجري علي قدم وساق في محطة الكهرباء النووية التي تقيمها علي هذه الجزيرة شركتا أريفا الفرنسية وسيمنز الالمانية. وتقول مجلة "تايم" ان هذه هي اول محطة كهرباء نووية تبني في غرب اوروبا منذ حادث تشيرنوبيل الشهير عام 1986 ويقوم الآن نحو 1200 عامل بوضع اللمسات الاخيرة علي الدرع الاسمنتي البالغ ارتفاعه 62 مترا والمنوط به حماية مفاعل هذه المحطة من خطر ان تصطدم به احدي الطائرات التجارية كما ان لهذا الدرع وظيفة اخري هي حماية البيئة المحيطة من خطر الاشعاعات الذرية اذا اصيب المفاعل بأي عطب. ونحن نعرف ان الطاقة النووية هي اكبر قوة تدميرية اكتشفها الانسان ولذلك فإن محطات الكهرباء النووية يجب ان تقام دائما في المناطق النائية. وبعد حادث تشيرنوبيل عزفت دول العالم عن اقامة محطات الكهرباء النووية لمدة تناهز 20 عاما ولعلنا نذكر ان طاقة الكهرباء النووية في العالم قد زادت بنسبة 750% خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي ثم انخفضت هذه الزيادة الي 140% في عقد الثمانينيات وتدنت تماما في عقد التسعينيات لتصبح 8% فقط. ولكن المخاوف الجديدة من ارتفاع اسعار البترول وقرب نضوب موارده وتزايد الآثار السلبية للاحتباس الحراري الناجم عن الانبعاثات الكربونية وتزايد الاعتماد علي الدول البترولية المشاكسة مثل روسيا وايران قد دفعت الغرب الي الاستعانة بالكهرباء النووية مرة أخري وتعد محطة أولكيلوتو الفنلندية رمزا لبعث هذه الظاهرة من جديد. والامر المؤكد ان صناعة الكهرباء النووية اصبح ينتظرها مستقبل مزدهر حيث سيتم في السنوات القادمة بناء عشرات من محطات الكهرباء النووية في مختلف انحاء العالم وليس في غرب اوروبا وحدها وذلك رغم ان هناك من لايزال ينازع في جدواها الاقتصادية وخطرها علي البيئة. واذا كانت فنلندا التي بدأت بناء محطة أولكيلوتو للكهرباء النووية عام 2002 تعد دولة رائدة في هذا المجال فقد لحقت بها بريطانيا التي ستفتتح محطتها الاولي عام 2017 وينطبق هذا الامر علي كل من السويد والمانيا رغم قربهما من محطة تشيرنوبيل في اوكرانيا التي روعت العالم بانفجار مفاعلها قبل 22 عاما من الآن. وحتي خارج اوروبا فإن الانباء تؤكد انتعاش صناعة الكهرباء النووية حيث يجري في هذه اللحظة بناء 34 محطة كهرباء نووية في مختلف الاسواق الناشئة وفي اماكن بعيدة عن تشيرنوبيل مثل الصين والهند والارجنتين وحتي روسيا. وتقول أني لوفيرجون الرئيس التنفيذي لشركة اريفا الفرنسية للمفاعلات النووية ان الثقة في الكهرباء النووية كانت ضعيفة في الماضي اما الآن فإنها تستطيع ان تمد العالم بكهرباء ذات سعر اقتصادي وخالية من الانبعاثات الكربونية ولذلك فإن لها مستقبلا كبيرا. وتري السيدة لوفيرجون ان الطاقة النووية ليست شيطانا وان الشيطان الحقيقي هو الفحم. ورغم ان هذا الكلام لا يعجب جماعات حماية البيئة مثل الخضر واصدقاء الارض فإن التأييد يتزايد لاستخدام الكهرباء النووية رغم انها ليست خالية من المخاطر علي البيئة. وفي استطلاع للرأي اجرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية وشمل 18 الف شخص في 18 دولة قال 53% انهم لايعارضون بناء محطات للكهرباء النووية في بلدانهم. ومادامت الطاقة النووية قد حظيت برضا الساسة والجماهير فإن مستقبلها يتجه الي الانتعاش. ومن الناحية الاقتصادية كانت الكهرباء النووية تعد عالية التكاليف اما الآن فقد اصبحت استثمارا مربحا. وتري وكالة الطاقة الذرية ان الكهرباء النووية تصبح مربحة ومنافسا جيدا للبترول اذا وصل سعر البرميل الي 45 دولارا، اما بعد ان اصبح سعر البرميل ضعف هذا الرقم واكثر فان الطاقة النووية تتفوق اقتصاديا الي جانب انها خالية من الانبعاثات الكربونية. وهذا يعني ان انشاء محطات كهرباء نووية لم يعد مقصورا علي الحكومات فقط وانما يمكن ان يدخلها ايضا اصحاب رءوس الاموال الخاصة. ولو اخذنا محطة كهرباء أولكيلوتو النووية سنجد انه كان مخططا لها ان تكلف 4.4 مليار دولار وان يتم افتتاحها عام 2009. ورغم ان تكلفتها زادت نحو مليار دولار فإنها ستفتتح قبل موعدها بعامين ويؤكد الخبراء انها ستظل رغم زيادة التكلفة مشروعا مربحا. ولكن يجب ان نضع في الاعتبار ان تعرض اية محطة كهرباء نووية لحادث جديد هو امر كفيل بتعطيل هذا المستقبل المشرق للطاقة النووية. وكلنا نذكر ان الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون سبق ان اعلن عام 1974 ان الولاياتالمتحدة سيكون لديها الف محطة كهرباء نووية مع بداية القرن الحادي والعشرين ولكن حادث ثري مايلز ايلاند الامريكي عام 1979 وبعده حادث تشيرنوبيل السوفيتي عام 1986 قد عطلا هذا الحلم الامريكي ولم يكن في الولاياتالمتحدة مع غروب القرن العشرين سوي 104 محطات للكهرباء النووية. ولكن بعد ان انحسرت المخاوف وزادت معدلات الامان في المفاعلات الجديدة فان الولاياتالمتحدة ستشهد قيام 27 محطة كهرباء النووية جديدة خلال العامين القادمين وسط تأييد سياسي واقتصادي من الكونجرس. كما ان الشركات الغربية تتنافس للفوز بمحطات الكهرباء النووية التي ستتم اقامتها في الصين والهند وغيرهما من الاسواق الناشئة التي سوف تستأثر وحدها بنصف المحطات الجديدة التي ستقام حول العالم.. وتتقدم هذه الشركات حتي الآن شركة اريفا الفرنسية التي ساعدها الرئيس ساركوزي اخيرا علي الفوز ببناء محطات في بلدان مثل ليبيا والامارات العربية والمغرب والجزائر. ويبقي ان يتنبه العالم حتي لا تستغل محطات الكهرباء النووية وما تنتجه من يورانيوم مخصب من اجل صنع أسلحة نووية في المستقبل وهو ما سيصيب جهود منع انتشار هذا النوع من الاسلحة بالفشل الذريع وتلك علي اية حال مهمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي سيكون عليها ان تراقب بدقة كل المشروعات النووية في كل البلدان مهما تكن طبيعتها لتضمن عدم تحولها الي الاستخدام العسكري.