الأمر خطير بكل ما في الكلمة من معني والذي يتعرض للخطر هو الأمن القومي المصري بالتوازي مع القضية الفلسطينية التي تنتقل من سيئ إلي أسوأ وإزاء أخطار جسيمة من هذا النوع تصبح المزايدات والمناقصات شكلا من أشكال النزق غير المسئول في وقت توزن فيه الكلمات والمواقف بميزان الذهب الحساس. وما يجري في هذه اللحظات الحرجة علي حدودنا الشرقية هو تطبيق حرفي لسياسة "الفوضي الخلاقة" التي توعدتنا بها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس منذ اللحظة الأولي لوصول المحافظين الجدد إلي مفاتيح صنع القرار بالإدارة الأمريكية وكشفهم النقاب عن خططهم الامبراطورية الكونية والشرق الأوسطية. وتخيل بعضنا ان هذه "الفوضي الخلاقة" ليست سوي جعجعة لفظية يتشدق بها السكان الجدد وقتها للبيت الأبيض والكونجرس بمجلسيه لكن سرعان ما اتضح أن الأمر جد وليس بالهزل وها نحن نري تطبيقات هذه الفوضي غير الخلاقة التي تؤجج الإدارة الأمريكية اندثرت وذيلها الإسرائيلي نيرانها في سائر انحاء منطقتنا بعد احتلال العراق حيث اندثرت الصومال كدولة وظهرت اعراض التفكك علي الجسد السوداني وأصبح لبنان بلدا بدون رأس أو رئيس بينما وصل الأمر بالأشقاء الفلسطينيين الي حد اللامعقول، حيث أصبحت الأولية للاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني بينما تراجع التناقض مع العدو الإسرائيلي الذي يفترض ان يكون التناقض الرئيسي وكانت النتيجة هي أن الجسد الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال تقطعت أوصاله بين الاخوة الاعداء في غزة التي تباهت "حماس" بأنها جعلتها "إمارة إسلامية" والضفة الغربية التي أصبحت منفي للسلطة الوطنية الفتحاوية العاجزة عن الفعل سواء مع العدو الإسرائيلي أو العدو "الحمساوي". وإذا كانت سلطة الرئيس محمود عباس "أبو مازن" قد استقالت من الكفاح المسلح ضد الدولة الصهيونية وأعلنت ذلك صراحة فإن "حماس" التي لم تكف عن الجعجعة وتهديد الدولة اليهودية بالثبور وعظائم الأمور نافست خصمها اللدود الرئيس محمود عباس في ابتذال هذا الأسلوب النضالي الراقي وتحويله من سلاح ضد العدو الإسرائيلي إلي سلاح ضد الشعب الفلسطيني وكانت نتيجة إساءة استخدام هذا السلاح الكفاحي ان كل الصواريخ التي تم اطلاقها علي أهداف إسرائيلية لم تقتل سوي 7 إسرائيليين بالإضافة إلي إصابة أربعة!! وكانت هذه النتيجة التافهة هي محصلة كل سنوات تمتع حركة "حماس" بالحكم بعد الفوز بالانتخابات في كل الشراكة مع الرئيس محمود عباس ثم بالانفراد بالسيطرة علي قطاع غزة بعد الانقلاب علي السلطة الوطنية. وهذا معناه ان كل جعجعة حركة "حماس" ضد إسرائيل كانت جعجعة مجانية لم تضرها عمليا بل إنها أفادتها في تصعيد عدوانها علي الشعب الفلسطيني حتي وصل الأمر الي جريمة الحصار الكامل للقطاع وهذه جريمة فاشستية لأنها بمثابة عقاب جماعي للشعب الفلسطيني وليست عقابا لحركة "حماس" التي حاولت بدورها الاستفادة سياسيا من هذا الحصار مثلما استفادت إسرائيل سياسيا من الصواريخ الفشنك الحمساوية. وفي ظل هذا التساند الوظيفي حدث ما حدث علي حدودنا الشرقية وهو تطور خطير كما قلنا لأنه يفتح أبواب جهنم أمام سيناريوهات مرعبة. منها سيناريو الدولة الفلسطينية البديلة في سيناء. ومنها سيناريو محاولة توريط مصر في قطاع غزة وتحميله مسئوليته أو بالأحري مسئولية مشكلاته التي هي بلا حل. ومنها سيناريو محاولة تصدير أزمة حركة "حماس" الي الدول العربية وبالذات مصر. وهي كلها سيناريوهات مدمرة سواء للقضية الفلسطينية التي تتعرض للتصفية سلفا أو للأمن القومي المصري الذي تتعاظم عليه التحديات من كل حدب وصوب. وفي موقف بهذه الدقة تصبح الشعارات الغوغائية والمزايدات والمناقصات جريمة في حق الوطن والأمة فهذا وقت يجب فيه علي جميع القوي السياسية من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار ومن "الموالاة" إلي "المعارضة" ان تتكاتف ضد العدو الرئيسي وضد الاخطار المحدقة. ومن هنا تأتي أهمية الوقفة الاحتجاجية التي دعا إليها مجلس نقابة الصحفيين أمس الأول وشارك فيها كتاب مصر وصحفيوها من كل الانتماءات والقوي دون تحزب ودون انحياز تمليه أهداف سياسية قصيرة النظر. ولم يكن أقل أهمية أن يأتي البيان الصادر عن هذه الوقفة الاحتجاجية المسئولة التي كان علي رأسها النقيب مكرم محمد أحمد مشيرا بكل جلاء إلي الواجبات المطلوبة من جميع القوي الوطنية. فقد أدان البيان عنصرية إسرائيل وفظاظة عدوانها علي الشعب الفلسطيني، كما أدان تآمر المجتمع الدولي بالصمت علي سلوك بربري يعاقب الشعب الفلسطيني علي نحو جماعي رغما عن الشرعية والقوانين الدولية من خلال حرب التجويع والحصار وعمليات القتل اليومي للشباب الفلسطيني تحت سمع وبصر الدول الكبري. كذلك أدان البيان استمرار الضعف وغياب التضامن وتغييب دور الجماهير العربية. ولم يكتف البيان بالإدانة والشجب والاستنكار بل طالب حركة "حماس" أيضا بإنهاء الوضع الانفصالي في غزة وطالبها بالانخراط الجاد في حوار وطني فلسطيني يضم كل القوي لإعادة وحدة الشعب الفلسطيني. وطالب الرئيس الفلسطيني أبومازن في الوقت ذاته باستئناف الحوار بين "فتح" و"حماس" لتوحيد الموقف الفلسطيني خلف برنامج وطني ترتضيه أغلبية الشعب الفلسطيني. أما مصر فقد طالبها البيان باستمرار موقفها الرافض لتجويع الشعب الفلسطيني والسماح للفلسطينيين بعبور الحدود للحصول علي احتياجاتهم الغذائية. وانتهي البيان إلي مطالبة قادة الأمة العربية أن يتداركوا -بكل المسئولية- أسباب الضعف والهوان العربي اللذين يرفضهما كل العرب.. وهذا كلام مهم رغم أننا شبعنا بيانات لا تستطيع -علي جودتها- أن تحرر شبرا من الأرض المحتلة أو تحقن دماء الفلسطينيين الذين تفتك بهم آلة الحرب الإسرائيلية المجرمة دون توقف أو تعيد حقا عربيا مسلوبا منذ سنوات وعقود. لكن أهميته الرمزية والمعنوية يمكن أن تكون دليلا ومرشدا لحشد القوي السياسية علي اختلاف مشاربها من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار دفاعا عن الأمن القومي المصري الذي تهدده أخطار جسيمة وعن القضية الفلسطينية التي تعرض لخطر التصفية. وهذا يتطلب منا التحلي باليقظة، وعدم الانسياق وراء الشعارات الغوغائية التي تريد تغليب مصالح فئوية ضيقة علي المصلحة الوطنية العليا غير متورعة عن الزج بالدين في هذه المهمة ومحاولة استخدامه لأهداف سياسية دنيوية ليست فوق مستوي الجدال.