ينتمي يوسف شاهين إلي عصر لا يقول فيه الانسان "وأنا مالي"، لأن الزمن القديم كان يوقظ في كل إنسان مسئولية أن له مالا في كل ما يحدث. ينتمي يوسف شاهين إلي جيل رأي يربط بين السينما وحركة المجتمع، وما تحمله أوجاع الناس العاديين، ولعل هذا قد ظهر جليا في أعماله التي أتذكر منها "باب الحديد" و"الناصر صلاح الدين" و"الأرض"، ثم العصفور، ثم سلسلة مذكراته التي ارخ بها لحياته. ولم اشاهد منها فيلما واحدا، لأني لم اعد احب السينما، سواء تلك التي ينتجها ويخرجها يوسف شاهين علي قدر ما هو عملاق، أوفنان اخر. فقد صارت احزاني واوجاعي أكثر عمقا من أن يعالجها فيلم سينمائي، كما كان يحدث فيما قبل. ولكني اتجهت إلي فيلم "هي فوضي؟" لأري ماذا يقدم يوسف شاهين من جديد، ومعه تلميذه الوفي خالد يوسف، فضلا عن حالة اعجاب شخصي بمنة شلبي فهي شعلة حية من التدفق الخلاق، هكذا اشعر بها في مسلسلات التليفزيون، وهو أيضا الجهاز الذي أضن بوقتي عليه إلا فيما ندر، ذلك أن في مكتبتي ما يغنيني بالتأكيد عن التليفزيون. واعترف بزني شاهدت في هذا الفيلم كيف يمكن لفكرة عظيمة أن تتحول إلي وباء وعلينا أن نعترف أن فكرة "أمين الشرطة" قد جاءت من ألمانياالشرقية، ووعد صديقي الراحل المظلوم شعراوي جمعة ان يجعل من أمناء الشرطة العمود الفقري للشرطة المصرية، وان يعد لهم دورات دراسية تجعهلم يحصلون علي ليسانس الحقوق ثم يرتقون إلي درجة الضباط. ولكن حدث الخلاف السياسي الشهير بين الرئيس السادات وبين المجموعة المحيطة بجمال عبدالناصر، فزج بهم في السجون، وبقي امناء الشرطة علي حالهم في مصر المحروسة، فضلا عن ان الدولة التي استوردنا منها الفكرة قد ذابت هي من الوجود، فلم يعد هناك ألمانياشرقية أو ألمانيا غربية، بعد أن توحدت ألمانيا. ولا أريد أن اقول عن احباط فكرة امناء الشرطة في ظل عدم تنظيم دورات دراسية لهم كي يتحولوا إلي ضباط، وأظن أننا ان جعلنا من أمناء الشرطة هم العصب الحساس لكل جهاز الشرطة، وأتحنا لهم فرص الترقي علميا، هنا سنكسب أجيالا من الشرطة المحترفة. أما عن فيلم "هي فوضي؟" فعلينا أن نركز علي الحقيقة، ألا وهي أن دخل أمين الشرطة، ودخل المحضر، ودخل محصل الكهرباء، ودخل المدرس، وأي دخل لأية بداية وظيفية في بر مصر المحروسة في المهن الحساسة، تدفع أي نبيل إلي أن يفعل مثلما فعل أمين الشرطة في فيلم هي فوضي. ان الدرس المستفاد هو أن سجن الجيل الشاب بين جدران الاحساس بالوحدة وفقدان القيمة مع وجود أية سلطة في يد هذا الشاب سيدفعه حتما إلي أن يفعل مثلما فعل أمين الشرطة حاتم. أيها السادة ان قاع المجتمع يحتاج إلي نظرة عميقة، كيلا تصبح الدنيا فوضي بالفعل.