في غزة الجميع في مأزق واحد، حماس وبعد أن ارتكبت حماقة الانقلاب العسكري وهيمنتها علي القطاع ومؤسساته وإداراته، وجدت نفسها مباشرة أمام جملة استحقاقات لا تقوي علي تحديها ومواجهتها، وأبرزها الاستحقاقات المدنية والسياسية مثل الاستحقاقات الأمنية المباشرة وغير المباشرة، فوجدت نفسها في مأزق لا تحسد عليه رغم المكابرة، وتحميل الآخرين مسئولية ما يعانيه القطاع من مشكلات متفاقمة وخطرة. السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسسة الرئاسة وجدت نفسها هي الأخري أمام تقاسيم الجغرافيا السياسية ما بين قطاع غزة والضفة الغربية، ووجدت في تحدي حماس العسكري تحديا يستحيل مواجهته عسكريا، ذلك أن حمامات الدم ستكون الوسيلة الوحيدة لذلك. إسرائيل التي سبق لها أن ارتضت الانسحاب من القطاع وفككت المستوطنات فيه من أجل عزله والانتهاء من مشاكله وشروره علي حد تعبير رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون، وجدت نفسها هي الأخري أمام حالة لا يمكن قبولها إسرائيليا، وهي تنامي المنظمات المسلحة في القطاع، وازدياد عدد مصانع الصواريخ اليدوية الصنع، وأخذت الصواريخ تنهال علي سديروت وغيرها دون حساب، وحاولت إسرائيل وقف هطول هذه الصواريخ عبر وسائل متعددة، لكنها فشلت في ذلك، ولم يبق أمام ساستها سوي التفكير جديا بعمليات محدودة، لكنها واسعة، تطال مناطق ومواقع وشخصيات سياسية في القطاع. وتحاول إسرائيل من ناحيتها المراهنة علي تكريس الانفصال الحادث بين غزة والضفة بكل السبل والأشكال، لأنها تدرك أن هذا الوضع الشاذ سياسيا هو الخطوة الأهم في تكريس الضعف الفلسطيني وتشتيت وحدته الجغرافية والوطنية حتي يتسني لها فرض خططها الاستعمارية والاستيطانية في آن واحد. الضحية، وكبش الفداء الوحيد في هذه المعادلة الصعبة هم أبناء قطاع غزة المحاصر والمنهك والمعدم وحدهم، وهم أكثر من غيرهم من ينام ويصحو علي تساؤل واحد لا غير متي يكون الحل لهذا المأزق القائم والذي طال انتظاره؟ لكن لا أحد يستطيع الإجابة عن مثل هذا التساؤل، فالجو السياسي العام مفعم بالألغام القابلة للانفجار في اية لحظة، كما هو مفعم بالمفاجآت التي يصعب توقعها. ربما تحاول حماس من جهتها جاهدة الخروج من المأزق، عبر إعادة التلويح بخيار الهدنة غير المشروطة مع الإسرائيليين، ولمدة عشر سنوات أو عشرين أو أكثر، وتؤكد حماس التزامها بهدنة كهذه فيما إذا تمت، بمعني التوقف عن إطلاق الصواريخ ومنع الآخرين من اطلاقها، ولو أدي ذلك للتصادم العسكري المباشر، وتعي حماس ما تقوم به خاصة في ظل تنامي الضغط الدولي علي إسرائيل ومطالبتها بضرورة المفاوضات مع الفلسطينيين حول قضايا الوضع النهائي. والإسرائيليون من جانبهم يدركون أهمية عقد هدنة مع حماس، لكن ذلك لا يمنع من ابتزازها قدر الامكان وايصالها إلي الحضيض لاملاء الشروط عليها، وفي هذا السياق، تتواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية دون أن تصل بالطبع إلي إسقاط حماس وتقويض هيمنتها علي القطاع. قد تكون السلطة الوطنية الفلسطينية قد استبعدت الخيار العسكري ضد هيمنة حماس غزة وتحاول أن تفرض هيمنتها السياسية علي الأقل علي القطاع، في وقت تعمل فيه إسرائيل علي ابتزاز السلطة أيضا، ومحاولة افهامها أنها أضعف من أن تسيطر علي الأراضي الفلسطينية كافة. والحق أن ليس الاحتلال وحده من أضعف الوضع الداخلي الفلسطيني فالطريقة الخاطئة في بناء مؤسسات السلطة والأجهزة الأمنية الرسمية ودور الميليشيا والعائلات والعشائر والأخذ بالتقاليد والأعراف الجاهلية، وتشكل مراكز القوي وازدواجية السلطة كل هذه العوامل ساهمت بشكل مباشر فيما وصل إليه الحال الفلسطيني، وتتويجه بالانقلاب العسكري، كما أنها أضعفت وقسمت النظام والحركة السياسية والمجتمع وأكملت من حيث لا تدري هدف ضعضعة وحدة السلطة والمجتمع علي حد سواء. وأمام كل ذلك يعود أبناء الشعب الفلسطيني في غزة للصورة، إلي المشهد فهم المضارون من هذه الانهيارات والصراعات وبحسب استطلاع أجري في القطاع فإن أكثر من 90% من المواطنين يضعون المصالحة الوطنية في موقع الأولوية، 72% يعتقدون أنها ممكنة وقابلة للتنفيذ، ولكن كيف يمكن ترجمة هذه الأمنيات، ربما تبدأ بالخطوة الأولي وهي تراجع حماس عن الانقلاب وفكره وثقافته، وتشكيل لجان حوار تنطلق من أسس وطنية وديمقراطية من أجل وضع استراتيجية وطنية واحدة والتأكد من الالتزام بها، وفي كل الأحوال لا يجوز السماح ببقاء أوضاع الانقسام علي حالها، خاصة في وجود فئات وشرائح وقوي لها مصلحة بدوام هذه اللحظة المريضة، وإن لم يحدث ذلك بخطوة جريئة وشجاعة تعلو فيها مصلحة الوطن علي المصالح الشخصية والفصائلية والحزبية، فإن هذا المشهد المأزوم سيبقي وبأوجه متعددة الأبعاد، قائما كجزء من الحياة المستمرة ومن الطبيعي بل والبديهي أن تكون إسرائيل هي الرابح الأكبر من هذا المأزق المتصاعد والمأسوي في غزة.