لم أنتبه إلا في عمر الخميس أني أهملت كثيرا في بوابة الابتسام والطعام المسماة الفم، ولأني كثير التوتر، كيف الضغط علي أسناني لترقب كل ما يجري حولي، لذلك كان من الطبيعي جدا أن يتحول الضغط المستمر الي ذوبان لعظام الفك، والي التهاب في جذور الضروس، وكان من السهل علي لساني تلك الكلمة التي أنطلق بها لطبيب الأسنان "اخلع هذا الضرس، لأنه يرهقني". وأفقت بعد سلسلة من خلع الضروس الي حقيقة الشكوي الدائمة من الحموضة واَلام المعدة. وبدأت أقرأ عن رحلة الطعام، فاكتشفت أني أرهق معدتي بالكثير من العمل علي هضم ما أضعه فيه من طعام غير ممضوغ. وأفقت علي أن أسعار طب الاسنان قد انتقلت من دائرة الجنية المصري إلي دائرة الدولار وهي الرحلة التي ابتدعها العالم الراحل د. كمال الإبراشي.. ولكني لم أستطع قبول التعامل معه علي الرغم من سعة عمله، لأنه كان يمارس نوعا غريبا من الديمقراطية، فبمجرد أن أفتح فمي حتي يبدأ في طرح أفكاره، وكأن علي شخصي المفتوح فمه كي يعمل هو ما يريد في أسناني، كان علي شخصي أن اقبل كل ما يقول دون مناقشة، وقلت له وأنا اقدم الاستقالة من التعامل معه، أنت تمارس معي ديمقراطية العالم الثالث، حيث يصبح علي ضرورة التصديق بالموافقة علي كل ما تقوله أنت دون أن أبدي أدني اعتراض. وبدأت صداقة مع الاستاذ الدكتور طارق الشرقاوي، وهو من وهب نفسه لمهمة غاية في الغرابة، وهي عشق تأسيس كليات طب الأسنان، فعل ذلك في السعودية، وأنشأ في مصر المحروسة إبان تولي مفيد شهاب وزارة التعليم العالي كلية طب أسنان قناة السويس وأراد أن يحولها إلي قلعة من قلاع دراسة الواقع في مدن القناة، ومارس فيها إيمانه العميق بأن العلم لايوجد في المحاضرة أو الكتاب ولكن في البحث الميداني، وعلي الطلبة أن يصحبوا الأساتذة في كل موقع.. ومازالت سيناء المصرية تذكر رحلات طلبة طب الأسنان التي كان يقوم بها الطلبة وأساتذتهم تحت اشراف مباشر من العميد المؤسس طارق الشرقاوي، وهو من استقال من عمله بعد أن أريد له أن يمارس دور المنافق لرجل لم يكن يليق بمنصب رئيس الجامعة، وهو الرجل الذي أكرمتنا السماء برحيله من الدنيا.. ولكن طارق الشرقاوي عاد الي جامعة القاهرة، ومنها طار من جديد ليؤسس جامعة بالمملكة العربية السعودية. وعانيت في الأسبوع الماضي اَلام وإنكسار في أسناني، فلم يكن هناك مفر من أن أذهب الي عيادة طارق الشرقاوي لأجد ابنه الدكتور احمد الشرقاوي، وقد امتلك ما علمه له والده، فضلا عما درسه في جامعة فرجينيا، ولم أخف علي نفسي من الشاب المجتهد، لأني ناقشته في كل التفاصيل، ووجدت في قدراته ما يطمئنني علي نفس. وهكذا واصل الابن ما بدأه الأب من اعادة تعلمي لرحلة العناية ببوابة الابتسام والكلام والطعام، ولا أملك إلا أن اشكر الأب والإبن معا.