خلاص! خلاص، قررت الاعتذار عن حضور الأفراح والليالي الملاح، إلا للضرورة القصوي. قررت الاعتذار بالسفر أو المرض أو الارتباطات العائلية، أما الذهاب للمجاملات فإن باقة ورد محترمة تؤدي الواجب ومعها بطاقة ملونة عليها كلمات بخط يدي لا بقلم عامل محل الورد! ما سبب هذا القرار؟ ربما كنت شجاعاً في البوح به وهو أن الأصوات الصادرة عن السماعات الضخمة المزروعة في قاعة أو صالة الفرح.. لا تحتملها طبلة أذني.. فأصحاب الفرح يجاملوني بالجلوس في الموائد القريبة للمسرح حيث تجلس الفرقة الموسيقية والمطرب أو المنولوجست أو الرقاصة.. ومعني هذا أني جغرافياً قريب من السماعات التي تضطرني من فرط ضخامة الصوت إلي إغلاق أذني بأصابعي. وكم من مرة طلبت تخفيض درجة الصوت لأنه معذب ولكن في الزيطة والزمبليطة لا أحد يهتم. فالكل مبسوط، ما عداي وبعض الجالسين معي! وفي آخر فرح كنت مدعوا، جربت أن أجلس بعيدا عن السماعات في ركن قصي من القاعة فلما لمحني صاحب الفرح، جاء وعاتبني قائلاً: "ودي تيجي؟".. واضطررت للعودة صاغرا إلي مقعدي في الصدارة وهات يا خبط في دماغي! سألت جيراني في المائدة "الصوت عالي أوي مش كده؟" ورد طبيب: ده فوق المعدل الطبيعي اللي تحتمله طبلة أذن الإنسان العادي! وقال جاري وهو مستشار بالقضاء: نهايتنا من حضور الأفراح هو الصمم وضعف السمع الحاد! وقالت سيدة فاضلة تعمل في الاتصالات: أنا مصدعة وعايزة أقوم أجري! وقال وزير سابق: السماعات الضخمة دي بتغطي علي صوت المطرب الضعيف وده لوثة مرح مش فرح! فرد الوزير السابق الذي يضع سماعة طبية علي أذنه: مش مطلوب اننا نتكلم ولا نتعارف علشان نركز مع المطرب!! ولما جاء صاحب الفرح يرحب بنا للمرة العاشرة ابتسمنا جميعا في وجهه فقال لنا "منورين"، فقلنا في صوت واحد: الفرح منور بأهله! وتابعنا الفرجة الاضطرارية والخبط والاعتداء علي طبلة أذن كل من يتعذب من السماعات الملوثة السمعية. ولكننا نجامل بابتسامات مزيفة! * * * أتذكر انني حضرت فرح ابن الأستاذ محمد حسنين هيكل وكان في الدور العلوي من أحد الفنادق الضخمة علي النيل. لا أنسي أني رأيت العريس والعروس يقفان في ركن هادئ والمدعوين يذهبون للتعارف والتمني للعروسين بحياة موفقة. وكنت أقف مع الأستاذ هيكل مهنئا واستمتعت برؤية "الأب" وليس الجورنالجي!.. أهم ملاحظة أن الموسيقي الهادئة كانت تعزف في الخلفية ولا مطرب ولا رقاصة ولا أوركسترا كنا قادرين علي الكلام والضحك والصفاء. كنا نشعر بمشاركة حقيقية دون أن نعاني من صداع أو تتعذب طبلة أذني! كان فرحا متحضرا اتفق فيه والد العريس ووالد العروسة علي هذه الصيغة الهادئة الناعمة، لا سماعات ولا ضوضاء! * * * المشكلة الحقيقية في الأفراح السوبر هو المظهرية الصارخة، وكم مطرب اشترك وكم رقاصة وأكبر القاعات وعشرات المئات من المدعوين وعدد المشاهير التي ترصدهم العدسات وتبث وجوههم مباشرة علي شاشات بلازما عريضة متناثرة داخل القاعات. الكل يتنافس أن يكون الفرح هو حديث الناس.. بالمناسبة، خرجت من الفرح بعد نصف ساعة دون استئذان أحد لأنجو بنفسي!