أوجد الآن في الإسكندرية حيث أعيش مع قصة الحب الهائلة لواحدة من أكبر جسور المستقبل دون أي إهمال لأي ذرة من الماضي، وأعني بها مكتبة الإسكندرية. وبطبيعة الحال ليس بيني وبين المكتبة أي علاقة عمل اللهم إلا ما أنقله لكم من أحداث ووقائع تحدث فيها، وأترك القاهرة مكرها كي أحضر إلي الإسكندرية لأستنشق عطر الأمل في زمن لا تمنحني فيه القاهرة إلا أنفاسا ضيقة، لا من فرط التلوث المادي الذي غمر القاهرة والجيزة بعد أن جاءت شركات القمامة الأجنبية والشركات المحلية، وكأننا بما ندفعه من جنيهات شهرية هو ثمن لتراكم القمامة في الشوارع، أهرب من القاهرة إلي الإسكندرية من أجل مؤتمر عن صدمات الحياة عند الأطفال والمراهقين. وإذا كنا نحتفل بالطفولة حين يولد لنا طفل، فنحن نصاب بدرجة من الذعر لحظة بلوغ الابن أو البنت فترة المراهقة، فنحن نبدأ في حساب السلوك المعوج وقول "لا" في مواجهة أي تعليمات أو أوامر من الكبار، دون أن نلتفت إلي حقيقة أن سمات المراهقة هي "المبالغة" و"الاندفاع" و"السطحية"، والسبب بطبيعة الحال أن المراهق لمن لا يعلم توجد في أعماقه كل حكمة التاريخ وكل براءة الطفولة، وكل الرغبة في أن يسرع الزمن إلي النضج. وبطبيعة الحال لا أحد فينا يرقب ما تفعله الغدد والهرمونات، فمنذ عام الطفل التاسع يبدأ في الرغبة في حماية ما يملك من أسرار، ويبدأ في استقبال تعليمات خاصة من غدة موجودة في المسافة بين الرقبة والقفص الصدري، واسمها غدة الثايموس، وهي التي تقوم بتلقين كل عضو وجهاز في الجسد أنه جسد فلان، وبصمته الوراثية هي كذا، وتنتهي تلك الغدد من حياة الولد والبنت في لحظة البلوغ، ليبدأ في استعراض حقيقة يلح عليها جسده أو جسدها بها، والحقيقة هي كلمة "أنا فلان الكبير الذي يجب أن يحترمه كل الكبار وأن يلتفتوا له وأن يعاملوه علي قدم المساواة معهم"، ولكن الكبار يقولون للولد أو البنت "أنت لسه ما طلعتش من البيضة"، ويرد هو بأسلوب وطريقة يكاد أن يقول فيها "قوم أقف وأنت بتكلمني". ودوائر الحوار بين المراهق وبين والده ووالدته شبه مقطوعة، ولهذا نسمع كثيرا عن الخناقات التي تدور في البيوت، لا لشيء إلا لأن الكبار يغلقون آذانهم في الكثير من الحالات في مواجهة الصغار. وهناك من يفتحون للأبناء جيوبهم ويغلقون عيونهم، ويشكون فيما بعد من انحراف. علي الرغم من أن أي ارهاق في نقاش بين الصغار والكبار يمكن أن يمد الكبار بالفهم للجيل الشاب، والمطلوب فقط هو تذكر كيف كان الكبير في العمر يتصرف أثناء المراهقة، وهنا سيجد الكبير أن ابنه المراهق قد صار صديقا يعبر عن نفسه بتلقائية واندفاع ومبالغة. وعلي الكبير أن يتقبل ذلك ومن خلال الصداقة سيعبر الابن والبنت مرحلة المراهقة وهم مبدعون وليسوا هم سبب الألم والكرب الذي يشكو منه الكبار. الصداقة تبدأ من فتح القلب بالحب وفتح العيون بالرقابة اللصيقة دون حصار مؤلم، وتأكيد فكرة الحرية بشرط أن يقف علي طرفها الآخر الاحساس بالمسئولية. وعندما يسألني أب هل أغرق مع ابني في دواماته؟ أم أعمل من أجل أن أحصل له علي المال؟ ودائما أقول: إن الاستثمار في الوقت الذي تقضيه مع ابنك أكثر قيمة من أي ثروة أخري. وأحيانا يسمعني الكبار لكنهم يخشون الصداقة مع الصغار، وأحيانا يحاولون فتح آذانهم ليسمعوا أطفالهم، وتكون النتيجة الفعلية هي الصداقة بين الكبار وبين الصغار، ولكن لعبة اقناع الكبار باحترام الصغار هي لعبة صعبة يهرب منها الكبار في أغلب الأحوال.