كالعادة تثار من وقت لآخر قضية البناء علي الأرض الزراعية وكالعادة ينتهي الجدل حولها دون حلول جذرية او قرارات تبدو حاسمة ويتآكل اثرها بعد فترة. والواقع انه حتي نهاية العقد السادس من القرن الماضي لم يكن يوجد احساس بخطورة البناء علي الارض الزراعية بل كان البناء علي الأرض الزراعية المتاخمة للمدن مصدر تربح عقاري وقد بدأ بناء مدينة المهندسين في أربعينيات القرن الماضي علي آلاف الافدنة من اخصب الاراضي الزراعية المتاخمة للقاهرة. فحتي منتصف القرن العشرين كان تعداد مصر يناهز العشرين مليون نسمة وفي حدود الستة ملايين فدان زراعي لم يكن يوجد الاحساس بخطورة تآكل المساحة المحصولية غير ان تعداد مصر ارتفع حتي وقتنا الحالي الي ما يناهز السبعين مليونا واصبح ازدحام الريف بالسكان يمثل من ضمن ما يمثل من مشاكل مشكلة البناء علي الأرض الزراعية، في البلاد التي حدثت بها تنمية اقتصادية يحدث انتقال من الاقتصاد المعتمد أساسا علي الزراعة كما في مصر الي اقتصاد يعتمد اساسا علي التنمية الصناعية ويصبح القطاع الصناعي هو محرك النمو الاقتصادي وارتفاع مستوي المعيشة. ويحدث في نفس الوقت تفريغ للريف من السكان فنسبة العاملين بالزراعة في البلاد المتقدمة تتراوح بين 5% و2% وينخفض عدد سكان القري الي نفس النسبة تقريبا وعدد السكان في القرية الواحدة يتناقص مع مرور الوقت وذلك علما بان في اغلب تلك البلاد يكون الري فيها بالمطر اساسا. نظام الري في مصر المعتمد علي مياه نهر النيل قد يحتاج الي أيد عاملة أكثر ولكن لا يمكن ان يكون السبب في ازدحام القرية المصرية فالتقدم الاقتصادي والصناعي اساسا يحدث معه استخدام معدات اكثر كفاءة سواء في الحرث او الري او جني المحصول بما يرفع انتاجية العمل بحيث انه لم يقل الاحتياج الي مزيد من الايدي العاملة فمن المرجح ان يقل عدد العاملين بالزراعة والخدمات الزراعية ويتم بالتالي نقصان القاطنين في القرية المصرية. والسؤال الذي يجب ان نسأله في شأن البناء علي الأرض الزراعية هو: لماذا يزيد القاطنون في القرية؟ دعنا من معدل المواليد والخصوبة في الريف انما لماذا يستمر سكان القرية في الزيادة بالقدر الذي يسبب مشكلة إسكان؟ السبب الاساسي هو انه لا توجد نشاطات جاذبة للعمل خارج القرية اي ببساطة تضاؤل معدل نمو القطاع الصناعي في الاقتصاد المصري بل تراجعه في غضون العقود الثلاثة الماضية مع تصفية القطاع العام وانخفاض معدل الاستثمار وضرب الصناعات كثيفة العمالة كالنسيج ودخول الاقتصاد المصري تحت هيمنة ما يسمي توافق واشنطن الذي فتح السوق المصري للمنافسة غير المتكافئة وابطل سيطرة الدولة علي حركة رؤوس الأموال وافقد الاقتصاد القومي القدرة علي التحكم في الاستثمار وجعل اكثر الطرق فعالية لتحقيق الثروة النشاط الريعي من "تسقيع الارض" او المضاربة علي الاسعار او البورصة وجعل أكفأ طرق تحقيق الربح تسويق الانتاج الاجنبي في السوق المحلي الاستيراد وصناعات ربط المفك التي تقوم بتجهيز الانتاج الاجنبي المستورد للتسويق في السوق المحلي. كل هذه العوامل التي ينتج عنها ازدحام الريف توجد ازمة اسكان في القرية والمدن الزراعية التي تتوسع بالبناء علي الارض الزراعية المتاخمة لعلنا نتذكر القرية المصرية فيما سبق من بيوت بالطين من دور واحد كان وقتها الكلام عن انخفاض سقف المبني او ضيق نوافذه وعن الخدمات غير المتوافرة كالمياه والصرف الصحي ولكن علي أي حال لم يكن يزيد متوسط عدد سكان القرية علي عدة مئات. مع زيادة عدد السكان في الريف اتسعت القرية علي حساب الأرض المتاخمة بل ارتفعت المباني الي ثلاثة او اربعة طوابق ألا يجب أن نتنبه الي ان هذا التطور يوجد بالضرورة مصالح "تسقيع" الأرض. يقولون ان الفلاح لايقبل مغادرة القرية قد يكون لذلك معني لو قصدنا انه لا يغادر ارضه غير ان العامل الزراعي او ابن مستأجر الارض يهاجر الي البلاد العربية سعيا للرزق وعندما يتحصل علي بعض المدخرات من القرية فانه يرجع الي قريته ويبحث عن مسكن او يبني مسكنا اما من لديه أولاد فيبني لكل واحد منهم شقة فوق بيته. كما تحول الريف من البناء بالطوب الني وهو يقال انه بناء صحي اكثر من البناء بالاسمنت ليس هذا موضوعنا علي أي حال. كل هذه العوامل اوجدت طلبا متزايدا لأرض البناء وبالتالي لتحويل الارض الزراعية الي ارض بناء لقد بلغت اسعار الفدان المتاخم للقري او المدن الريفية الي اكثر من نصف مليون جنيه للفدان في انتظار ادخالها في تنظيم المدينة او حتي دون ادخالها في تنظيم المدينة ألا يوجد ذلك مصالح مالية لها تأثيرها علي اتخاذ القرار في شأن البناء علي أرض زراعية، ان اي قرار يمكن اتخاذه بمنع البناء علي أرض زراعية لا يمكن وضعه بجدية موضع التنفيذ لان الحفاظ علي الأرض الزراعية ليس قرارا يخص الاسكان في القرية بل يعتمد علي ايجاد فرص عمل خارج القرية في الصناعات الجديدة والتنمية الصناعية. وذلك يجب ان يلازمه ايضا توسع زراعي يستهدف ايجاد مجتمعات زراعية كثيفة العمالة كما كان يجب ان يحدث في شمال سيناء وليس مشاريع الاصلاح الرأسمالية التي يتم تمليك ارضها لشركات ومستثمرين اجانب لا يستخدمون إلا اقل عدد من الفلاحين برغم استخدام اكثر المعدات الرأسمالية كفاءة وفي مناطق مثل توشكي بدلا من شمال سيناء التي يمثل تعميرها قضية أمن قومي.