"هو إحنا لازم نموت علشان الناس تحس بينا"، "إحنا مش عايشين أصلاً.. لا مواصلات ولا مياه ولا مجاري"! هاتان الجملتان اللتان قالتهما سيدة وطفلة في تقرير بثه برنامج "اتكلم" الذي أذيع مساء يوم الاثنين الماضي والذي تقدمه الإعلامية لميس الحديدي.. لخصا حالة الريف المصري في الوقت الحالي، والذي لا نشعر به إلا بعد حدوث كارثة، وآخر تلك الكوارث ظهور حالات إصابة بالتسمم بسبب تلوث مياه الشرب والذي أرجعته الحكومة إلي استعمال أهالي الريف الطلمبات الحبشية للحصول علي المياه "النقية". وبالطبع تذكرت "الحكومة الذكية" فجأة خطورة تلك الطلبمات التي تسحب المياه الجوفية من باطن الأرض للاستخدامات المختلفة والتي عادة ما تكون مخلوطة بمياه الصرف الزراعي المشبعة بالمبيدات وكذلك مياه الصرف الصحي المتسربة من الخزانات "الترنشات" والتي تتجمع فيها مياه الصرف لعدم وجود مشروعات "مجاري" في العديد من القري. فالطلمبات "الغبية" تسحب المياه من باطن الأرض ولا تفرق بين المياه الجوفية "النظيفة" وبين مياه الصرف الصحي والزراعي والنتيجة إصابة "الفلاحين" الذين يستخدمون تلك المياه بأمراض عديدة.. بعضها مؤجل إلي سنوات قادمة ومنها الفشل الكلوي والكبدي والسرطان والبعض الآخر تظهر أعراضه سريعا كالتسمم بالسامونيلا والنزلات المعوية الحادة بل والكوليرا. وعلي الرغم أنني من مواليد وسكان القاهرة إلا أن لي جذورا ريفية في محافظة الشرقية ولكن بلدتي دخلها العمران ومزودة بالمرافق الأساسية نظراً لقربها من القاهرة وقيام بعض شبابها ببناء بيوت حديثة فوق الأراضي الزراعية بعد عودتهم من دول الخليج والعراق، وهذه الصورة الوردية للريف والتي كنت أراها خلال زيارتي القليلة لبلدتي أخفت عن ذهني الصورة الحقيقية للريف المصري، والذي كنت أتصور أنه يحتاج فقط إلي تفعيل لدور المجالس المحلية وجعل نظام العمد بالانتخاب وشق ورصف المزيد من الطرق به وإيجاد موارد جديدة لتمويل الصناديق المحلية كي تقدم المزيد من الخدمات لأهل الريف ومد القري البعيدة بوسائل مواصلات مريحة. وتلك الصورة الوردية استوحيتها من واقع دراستي العليا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بدبلوم الإدارة المحلية في أوائل التسعينيات وقد تخيلت وقتها ان مشاكل الريف هي في نقص الموارد وتوفير فرص عمل لأبنائه من خلال مشروعات حرفية صغيرة وتجريف الأراضي الزراعية والبناء فوقها وتفعيل المشاركة السياسية لأهل القري.. ولكن الصورة الحقيقية التي بحثت عنها والتي اكتملت بالسؤال عن أحوال الريف بالصعيد الجواني، ولقاءات مع زملاء وأصدقاء وناس بسطاء.. كانت محزنة ومحبطة. فلا توجد تماثيل رخام علي الترعة وأوبرا في كل قرية.. كما كان يحلم الشاعر الراحل صلاح جاهين في الستينيات كما لا تتوافر في بعض القري مشروعات مجاري بل ولا حتي "حمامات منزلية" (W-C) رغم التصريحات الحكومية والأرقام الهائلة التي كدنا أن نحفظها من كثرة تكرارها.. والتي أنفقت علي البيئة الأساسية، ورغم الانجازات التي نسمعها كل عام حول الجهود الحكومية لتطوير الريف المصري في بيانات الحكومة المتعاقبة أمام مجلس الشعب، ورغم وجود أعضاء منتخبين في المجالس المحلية ومجلس الشعب وأيضاً رغم وجود 14 حزبا سياسيا في مصر علي رأسهم الحزب الوطني بل والغريب أن كل هؤلاء من أعضاء بالبرلمان والمجالس المحلية ومن قيادات حزبية يزايدون علي الريف وأهله.. وشاركوا في رسم صورة غير واقعية عن الريف المصري، حتي أصبحت الفجوة كبيرة بين الريف والحضر وزادت الهوة إتساعا بين أهل الشمال والجنوب. وبالتالي مازالت الأمراض الاجتماعية متأصلة الجذور في الريف خاصة الثأر، بل وزاد من تلك الأمراض الحقد الطبقي علي أبناء الوطن الواحد من الأثرياء الجدد والذين تصورهم الدراما التليفزيونية والأفلام السينمائية بل وبعض الصحف علي أنهم يرفلون في النعيم وفي القصور واليخوت والمنتجعات ويعيشون حياتهم علي "الطريقة الأمريكية" ويقلدون الحياة الغربية في الوقت الذي يتم تصوير الفلاحين والصعايدة علي أنهم متخلفون عن أهل الحضر بعشرات السنين ولا جدوي في تغييرهم. إن التغيير الحقيقي في مصر يجب أن يبدأ بالريف وأن الإصلاح لابد أن يشملهم بالفعل لا بالأقوال وأن تنمية الريف والارتقاء به أصبحت الآن قضية أمن قومي فليتحرك المعنيون بالأمر قبل فوات الأوان فكيف علي سبيل المثال نعيش في زمن الحكومة الذكية والطاقة النووية والريف المصري يعيش في العصور الحجرية.