لا أظن أن هناك لغة أخري غير اللغة العربية توجد بها كلمة "الفنقلة". هذه الكلمة الغريبة، والثقيلة علي النطق وعلي السمع، كلمة مركبة تعبر عن طريقة في النقاش والجدول. وهي طريقة عجيبة وفريدة تتلخص في المجادلة في أي شئ يقوله من يناقشك. حتي إذا قال الآن شيئاً عكس ما قاله منذ خمس دقائق فإنك ترفضه مثلما رفضت عكسه. وبهذا تكتسب "الفنقلة" معناها الحرفي بحيث "إذا قلتم كذا قلنا كذا". وهي بهذا الشكل أقرب ما تكون إلي "المناكفة"، والاختلاف حباً في الاختلاف. وهذا هو عكس "الحوار" علي طول الخط.. حيث يستهدف الحوار "تلاقح" الأفكار، وليس تلاطمها. فالحوار البناء والايجابي هو الحوار المنتج الذي نخرج منه بحصيلة أكبر من تلك التي بدأناه بها. ومن المخجل أن نحاول تعريف الحوار ونحن في بداية الألفية الثالثة، بينما كان الفيلسوف الاغريقي سقراط يتحدث عن "توليد الأفكار" من خلال الحوار قبل الميلاد! هذه المقدمة الطويلة والمملة عن أصول الحوار تفرضها العصبية التي باتت تميز الجدل العام الآن، ناهيك عن التصلب والجمود، والتعامل مع الطرف الآخر في عملية الحوار كما لو كان "عدوا" في حلبة ملاكمة يجب القضاء عليه بالضربة القاضية، ولا بأس بالضرب تحت الحزام أيضاً .. وبكل الطرق المشروعة وغير المشروعة. أي أن الهدف ليس إقناع الطرف الآخر ، أو الالتقاء معه في منتصف الطريق، وإنما القضاء عليه وتصفيته معنوياً، إن لم يكن مادياً كذلك! ونتيجة لهذا المنهج المدمر اصبح الخطاب العام في المجتمع مسموماً ومحتقناً وعصبياً وبالغ العنف. والشواهد علي ذلك كثيرة ، وتشمل كل المجالات تقريبا. فمن كان يتصور مثلا ان "الحوار" تحت قبة البرلمان يمكن ان يتدني الي درجة استبدال الكلمات بالأحذية، وتلويح نائب بان يخلع جزمته ل "يقنع" بها نائبا آخر! من كان يتصور -مثلاً- أن الأندية الرياضية والاجتماعية يمكن ان تتحول الي ساحات للبلطجة اللفظية والجسدية التي يشارك فيها، بل ويقودها، نجوم المجتمع! من كان يتصور -مثلاً- ان مقصورة اكبر إستاد رياضي في البلد تتحول الي جلسة مصارعة وملاكمة تتطاير فيها الشتائم والبذاءات والأحذية في ختام بطولة رياضية مهمة وفي حضور مندوب رئيس الجمهورية شخصياً، وعلي مرأي ومسمع من كاميرات التليفزيون والفضائيات العربية والأجنبية! من كان يتصور -مثلاً- ان يصل التلاسن إلي بلاط صاحبة الجلالة، وحملة الأقلام الذين يفترض فيهم انهم قادة الرأي العام، فإذا ببعضهم يتبادلون سباباً مفزعاً أمام الملايين عبر شاشات الفضائيات؟! نحن إذن لسنا إزاء انقلاتات فردية ، بل إزاء ظاهرة عامة يتردي فيها الخطاب العام في المجتمع -بجميع مجالاته- إلي الدرك الأسفل. وهذه الظاهرة تحتاج الي تحليل علمي يجعلنا نضع يدينا علي جذور هذا الداء العضال الذي يعطل ملكات البشر، ألا وهي ملكة الحوار التي نحن في أمس الحاجة الي استعمالها -بنزاهة- من اجل مواجهة تلال المشاكل التي تواجهنا من الداخل والخارج. من هذا المدخل.. ندلف إلي احد قضايا الساعة وهي مسألة التعديلات الدستورية. هذه المسألة شغلت حيزاً كبيراً من اعمال المؤتمر العام الرابع للحزب الوطني الديمقراطي. وبالنتيجة ثار جدل واسع حول هذه التعديلات. وكان من الممكن ان يكون هذا الجدل امراً صحياً ومفيداً للجميع. لكن البعض شاء ان يهدر هذه الميزة نتيجة للتصلب والجمود وعدم القبول باي أفكار مغايرة. وعلي سبيل المثال فان بعض قادة الحزب الوطني الديمقراطي تحدثوا عن هذه التعديلات الواردة علي جدول أعمال الحزب الحاكم كما لو كانت غاية المراد من رب العباد. وهي بالفعل تعديلات مفيدة وجيدة في الاتجاه العام. لكن هناك تعديلات أخري يلزم ان تجئ معها ، او تسبقها. وفي مقدمة هذه التعديلات المطلوبة التعديل المرتقب علي المادة 76 والمادة 77 من الدستور. وبدون تعديل هاتين المادتين يصبح الحديث عن الإصلاح مبتوراً وأعرج لأن هاتين المادتين هما اللتان تنظمان الخلافة السياسية وتداول السلطة. فاذا لم يتم تعديلها.. فإن معني هذا أن كل الاصلاحات التي ناقشها مؤتمر الحزب الوطني تجري في إطار استمرار احتكار الحزب الوطني للسلطة، مما يعني استمرار "الاحتباس" الاصلاحي. هذه الفكرة السابقة يرفضها كثير من أقطاب الحزب الوطني، بل ويرفضون مناقشتها أصلاً، ويتعاملون بغلظة غريبة علي أصحابها كما لو كانت رجساً من عمل الشيطان. وهذا يذكرنا بالرفض المطلق لفكرة تعديل الدستور أصلاً حتي عامين من قبل. ففي ذلك الحين كان صقور الحزب الوطني يسخرون من هذه الدعوة ويعتبرونها "هرطقة"، بل وصل الحال بالبعض منهم بوصفها بأنها "خيانة" وطنية والعياذ بالله. والمدهش ان هؤلاء يتغنون بمزايا تعديل الدستور بعد أن فاجأهم الرئيس حسني مبارك بموافقة علي تعديل المادة 76 علي النحو المعروف. صحيح أنهم عملوا قدر استطاعتهم علي تفريغ مبادرة الرئيس مبارك من محتواها الديموقراطي، ونجحوا في ذلك في نهاية المطاف عن طريق استخدام أسوأ طراز من ترزية القوانين، لكن تغييرهم لمواقفهم بزاوية قدرها 180 درجة مسألة تثير الحيرة والاستغراب. ولذلك.. فان أنصار التعديل الأوسع للدستور، أو حتي تغييره بصورة كاملة، لا يجب أن يقنطوا أو يرفعوا راية الاستسلام. فهؤلاء الرافضون أنفسهم سيتحولون إلي أنصار متحمسين للتعديل الدستوري - بما في ذلك للمادة 76 والمادة 77 - إذا وافق مبارك عليه. وهذا الاحتمال الأخير ليس مستحيلاً، بل أنه متوقع بدرجة كبيرة، علي الأقل من زاوية عملية، هي ضرورات الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2011. فهذه الانتخابات إذا جرت في ظل التعديل الحالي للمادة 76 لن تجد من يخوضها سوي مرشح الحزب الوطني منفرداً. وهذا يضع تحديات كبيرة علي شرعيته وشرعية العملية الانتخابية برمتها. ولذلك .. فأننا اذا كنا نريد أن نتعلم شيئا من درس تعديل المادة 76، فهو ان نتحوط من ألاعيب ترزية القوانين المتربصين لإفساد أي تعديل ديموقراطي وتفريغه من محتواه. ولأمر الأكثر أهمية هو أن يعمل الجزء الناطق من الأمة -من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار- علي فتح حوار عاقل وموضوعي حول هذه التعديلات المنشودة، بعيداً عن حوار "الطرشان" الدائر حالياً، والذي يحاول بعض رموز الحزب الوطني إلي تحويله إلي نوع من "الفنقلة" .. وليس الحوار. [email protected]