من بعيد تبدو الصورة اوضح.. حدودها اكثر وضوحا.. ملامحها أدق تفصيلا.. ويبقي السؤال من يدفع ثمن ما وصلنا إليه؟! سؤال ألح علي رأسي وأنا في اجازة طويلة احاول فيها ألا اقترب من الاحداث قدر المستطاع.. فكلما اقتربت قرأت عن حادث او كارثة او مصيبة وجميعها تتوالي وكأن الله صب جام غضبه علي هذه البقعة من الارض.. من يدفع ثمن ما وصلنا إليه؟ وما وصلنا اليه - ولا تخدعك أرقام الحكومة - هو بصراحة: وطن يهرب منه ابناؤه، خارج اطار المنافسة لا يمكن مقارنته باي من جيرانه ولا يعرف القائمون عليه من أين البداية في الاصلاح. ما وصلنا اليه هو حال من التدهور والاهمال المتراكم علي مر سنوات افضي الي كوارث: فتارة عبّارة وتارة قطار وتارة انهيار منازل.. ناهيك عن انهيار الاخلاقيات ومبادئ وقيم العمل والشرف والالتزام التي خلفت انسانا مصريا فقد التميز الثقافي والعلمي والادبي الذي كان يحوطه لسنوات طوال وفقد معها كل أسباب القيادة والريادة سياسيا واقتصاديا. من يدفع ثمن ما وصلنا اليه؟ فلا تعليم ولا صحة ولا مرافق ولا سكك حديدية ولا طرق ومواصلات ولا مياه شرب نقية ولا صرف صحي سليم ومليارات البلد التي انفقت طوال تلك العقود اسفرت عن كوارث.. ذهبت الاموال وذهب معها ارواح الناس واذا بنا نبدأ من جديد. من يدفع ثمن ما وصلنا اليه؟ فلا نحن خبراء في الصناعة، ولا نحن تجار البحر والبر، ولا نحن علماء بعد ان فقدنا اسباب العلم ولا نحن خبراء تكنولوجيا رغم كل ما يقال عن ذلك، ولا نحن اهل الخبرة في المال والاستثمار ولا نحن أصحاب الخدمات والسياحة لا يميز هذا البلد سوي الاهرام وأبي الهول الذي صمت عن الكلام منذ دهر من الزمان.. اما ما صنعناه بأيدينا فإما فقدناه أو ظهر انه فاسد لابد من هدمه لنبدأ من جديد!! هل هذا معقول ان نبدأ من جديد؟ نبني مرافق من جديد وطرقا من جديد وعمارة من جديد، نخطط من جديد، ونفكر من أول السطر وكأن كل ما فات مات.. أو قتل أو أصابته سكتة قلبية لأنه أصلا كان مريضا. يا سادة، من يدفع ثمن كل ما وصلنا إليه؟ هل حكومة واحدة، هل كل الحكومات، هل الحزب الحاكم، هل النظام ككل؟! الحقيقة ان الذي يدفع كل ذلك هو المواطن فقط المصري الذي كتب عليه ان يستمع ويحلم ويصفق ويصفع علي وجهه ثم يتحول الي آلة صماء، جهاز تنفسي لا يملك سوي الشهيق والزفير بعد ان فقد القدرة والرغبة في الحياة والحلم والتفاعل.. جهاز تنفسي سلبي يعيش علي اجهزة تنفس صناعية. هذا هو حال البلد كما رأيته من بعيد.. وطن يعيش علي جهاز تنفس صناعي.. وطن في الانعاش ليس لانه شاخ ومرض فحسب.. ولكن لانه فقد الرغبة في الحياة وذاك هو الاخطر. نقطة فاصلة: * أوطان اخري تتمسك برحيق الحياة.. لان شعوبها تصر علي البقاء.. علي الوجه الافضل وليس القبول بالفتات.. من تلك الاوطان رغم الدمار: لبنان. * لابد ان رمسيس نظر حوله طوال رحلة تهجيره الي الجيزة وقال في نفسه: هذا ليس وطني.. فلا تلك الشوارع الضيقة ولا تلك السماء الملبدة بالتلوث، ولا هؤلاء البشر المكسوة نفوسهم بالانكسار هم اهلها. اين كرامة أهل طيبة، اين أرض مصر التي حكمتها لعقود.. اين ما شيدته ولماذا لم يشيدوا مثله.. فرعون يسأل عما فعله الفراعنة الاخرون.. أو لم يفعلوه..؟ مجرد تخريف. * وصف نجيب محفوظ جنازات كثيرة.. كتب عن لحظات الموت ولحظات التشييع.. وربما تمني داخل نفسه وهو يفارق دنيا الوهم ان يشيعه حرافيشه ومريدوه وكل من انتصر لقضاياهم.. ولو لدقائق معدودة.. ولم يكن يعرف محفوظ ان جنازته ستكون بهذه "الابهة" وهذه "الفخامة" وهذا "التأمين".. ولكن بدون كل تلك المشاعر. عاش محفوظ بسيطا.. ينتمي للناس ولم ينتم للحكم أو للسلطة إلا أن موته ابتعد به عن الناس.. بالامر