منذ دقت الولاياتالمتحدة طبول الحرب علي العراق زادت شقة الصدع بين الجانبين الأمريكي والأوروبي، رغم وقوف دول أوروبية أخري مثل إيطاليا وإسبانيا في صف الحرب. وبمرور الوقت لم تتسع فجوة التناقضات في صفوف الدول المؤيدة والرافضة لها علي الصعيد الرسمي فحسب، بل إنها أثارت، حركة احتجاجات شعبية واسعة ضد التحالف وضد الولاياتالمتحدة بوجه خاص. حتي أن المظاهرات والمسيرات في إنجلترا مثلاً، تجاوزت في حجمها الاحتجاجات أيام العدوان الأمريكي علي فيتنام. ورغم اعتراض عدة دول أوروبية في مقدمتها ألمانيا علي القرار الأمريكي المنفرد بضرب العراق دون اعتبار للشرعية الدولية أو للأمم المتحدة، وما قابله ذلك من عجرفة أمريكية وصلت إلي حد قول بوش "من ليس معنا فهو عدونا". إلا أن مجريات الأحداث وما أسفرت عنه من تورط أمريكي في المستنقع العراقي في تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية في الدول المشاركة في التحالف مما أسفر عن سقوط الحكومة في كل من إسبانيا وإيطاليا، الأمر الذي يتوقع أن يطال أيضاً حكم بلير في بريطانيا. وعادت الولاياتالمتحدة إلي خطب ود الأوروبيين لنجدتها من مأزقها الذي ورطت نفسها وآخرين فيه. وتعليقاً علي ذلك كتب كريستوف برترام مدير المعهد الألماني للشئون الدولية والأمن ببرلين "من المؤكد أن الولاياتالمتحدة الآن طلبت المساعدة من كل الدول الأعضاء بالحلف، في تناقض ملحوظ مع موقفها المتغطرس حين قالت منذ عامين فقط إن منظمة حلف شمال الأطلنطي لم تعد تمثل أهمية؛ وإن تحديد هوية التحالف من الآن فصاعداً سيتم وفقاً لكل عملية عسكرية علي حدة، وليس وفقاً للعضوية في حد ذاتها. وعلي الرغم من هذا، فإن هذا الاتجاه الجديد في نظر أغلب الحلفاء لا يتعدي كونه مفهوماً تكتيكياً، أو تأكيداً للبراجماتية الأمريكية التي تظهر حين يتطلب الموقف تواجدها". "ناتو" في مهب الريح وبعد ثلاثة أعوام من الحرب علي العراق تصاعدت التساؤلات عن الدور الفعلي لحلف شمال الأطلنطي "ناتو" الذي كان تدشينه في أبريل عام 1949 علي يد الرئيس الأمريكي هاري ترومان بداية عصر من التحالف الوثيق علي ضفتي الأطلنطي في مواجهة الكتلة الاشتراكية. ومثل الانقسام حول شرعية الحرب ضد العراق أعنف هزة مني بها الحلف منذ تأسيسه. ورأت دول أوروبية أن هذه الحرب مثلت انتهاكاً لقواعد عمل الناتو المتفق عليها. ورغم أن اتفاقية إنشاء حلف "ناتو" اعتمدت أن تكون أمريكا العضو الأول بين أعضاء متساوين وعلي مباديء المصالح المشتركة والمسئوليات المتبادلة والإرادة المنسقة والعمل الجماعي والقرار الجماعي، إلا أن مجريات الأمور أسفرت عن تذمر الأوروبيين ورفضهم للانصياع للأوامر الأمريكية. وظهر تذمر الأوروبيين من انفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة علي قيادة حلف شمال الأطلنطي في أكثر من مناسبة، بداية من حروب البلقان وحتي احتلال العراق. وكانت أول الخلافات العلنية ما تعلق بنظام الدرع الصاروخي الأمريكي، وقوة الرد السريع الأوروبية. فرأي الأوروبيون أن نشر الدرع الصاروخي الذي يسمح للولايات المتحدة بإسقاط الصواريخ المهاجمة عن طريق نظام تحذير بالقمر الصناعي سيفرغ معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية (آي بي إم) الموقعة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي السابق من محتواها بما يوجد قاعدة لسباق تسلح جديد يشمل الفضاء الخارجي. ورأوا أن من شأن الدرع الصاروخي الأمريكي إحداث شق في حلف الأطنطي. ومن ناحية أخري، تزعمت بلجيكاوألمانيا وفرنسا الدعوة لتشكيل منظمة أمنية أوروبية تحل تدريجيا محل حلف الأطلنطي؛ عبر دمج جيوش هذه الدول ووضع أساس صناعة عسكرية أوروبية مشتركة. ودعت الدول الثلاث بالإضافة إلي لوكسمبورج في اجتماع قمة عقد في بروكسل إلي إنشاء قيادة عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف الناتو، تتضمن قوات من 60 ألف جندي قادرة علي الانتشار خلال 60 يوماً لمدة عام واحد. ولعلنا نتساءل بعد هذا العرض عن الفترة المتبقية لتشييع جنازة القطبية الأحادية بعدما لاح في الأفق مصير مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC) الذي وصف بأنه "منظمة تعليمية لا ربحية هدفها تعزيز القيادة الأمريكية للعالم"، وقال معدوه إن ما كانت تحتاج إليه أمريكا لكي تسيطر علي معظم البشرية وموارد العالم، وهو حدوث كارثة مدمرة ومحفزة في نفس الوقت، كأن يحدث "بيرل هاربر جديد". وقد هيأت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 هذا "البيرل هاربر الجديد"، الذي وصف بأنه "فرصة العمر". فهل هي مفاجأة أن يكون كل من ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وجيب بوش وبول ولفويتز، من الموقعين علي وثيقة إعلان المباديء لمشروع القرن الأمريكي الجديد في 3 يونيو ،1997 إلي جانب الكثيرين غيرهم من أعضاء "مجلس حرب" بوش؟ [email protected]