الخطوة القصيرة التي تراجع بها مؤخراً "حزب العمال" البريطاني عن سياسته الأطلسية غير المشروطة، أو الدعم اللامحدود للعلاقة بين جانبي الأطلسي، حظيت باهتمام محدود نسبياً خارج المملكة المتحدة. فقد أدلي "ديفيد كاميرون" الزعيم الجديد ل"حزب المحافظين" الذي يتقدم الآن في استطلاعات الرأي (يعتمد المشاركون فيها إلي حد كبير في حكمهم علي الرجل علي التكهن بما سيكون عليه أداؤه وليس علي حقائق ملموسة بشأن ذلك الأداء... ومن ثم فهي استطلاعات قد تعطي فكرة غير دقيقة عما سيكون عليه الحال في الانتخابات العامة والتي لا تزال بعيدة)، أدلي بتصريحات تفيد ضمناً أن هناك اختلافات في وجهات النظر في مجال السياسة الخارجية بين حزب "المحافظين" الذي يقوده وبين إدارة جورج بوش التي يسيطر عليها تيار "المحافظين الجدد"، وهو ما يمكن استنتاجه من تأكيده في سياق تلك التصريحات التي أدلي بها الخريف الماضي بمناسبة الذكري السنوية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، علي الحاجة لإتباع سياسات تتسم ب"التواضع والصبر"، وهو نوع من السياسات لم تكن إدارة بوش أو حكومة توني بلير حريصة علي التحلي به. وفي يناير الماضي قال وزير خارجية حكومة الظل في بريطانيا "ويليام هيج"، في كلمة له أمام "معهد الشئون الدولية"، إن بريطانيا تحتاج إلي تحالف وثيق مع الجانب الآخر من الأطلسي لا إلي تحالف تلعب فيه دور التابع"، مشيراً في السياق ذاته إلي أن سياسات الدولتين في العراق قد جعلتهما تفقدان ما كانتا تتمتعان به من "السلطة الأخلاقية". وقد أدت هذه التصريحات "المتحفظة" إلي استفزاز المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، ودفعتهم إلي تهديد بريطانيا بالويل والثبور إذا ما سعت حكومة المحافظين الجديدة- إذا ما قدر لها الفوز في الانتخابات- إلي جعل العلاقة بين جانبي الأطلسي أقل قوة وأقل خضوعاً من الجانب البريطاني، لأن هذا لو حدث فإنه، حسب نص التهديد، "سيلحق أذي جسيماً بالمصالح الاستراتيجية البريطانية... وسيؤدي كذلك إلي إضعاف العلاقات الدفاعية والاستخباراتية والعلاقات المالية وعلاقات التجارة والاستثمار الوثيقة القائمة بين البلدين". وجاء هذا التهديد في صحيفة "وول ستريت جورنال" اليومية الأمريكية، وهي صحيفة يمينية" منسوباً إلي مسئولين كبار في مؤسسة التراث الأمريكي" هيريتج فونديشين" في واشنطن. والتصريحات التي أدلي بها هؤلاء المسئولين بدت كتهديد أكثر من كونها دعوة لضرورة الالتزام بمبدأ الولاء بين التيارين المحافظين في البلدين، لما أطلق عليه تشرشل قيم الأجناس الناطقة باللغة الإنجليزية، لا بل إنه قد بدا كتذكرة لبريطانيا من جانب "توني سوبرانو"، وهو واحد ممن أدلوا بتلك التصريحات حيث قال إنه "طالما أن بريطانيا قد تم شراؤها، فمن الأفضل أن تبقي كذلك". وقد ظهر صدع آخر في العلاقات عبر الأطلسية بين الولاياتالمتحدة وأحد حلفائها الأوروبيين الوثيقين، هو ألمانيا، وهو صدع يرجع في الأساس لاستفزازات لا داع لها تماما وتتصف بالخفة والرعونة السياسية إن لم يكن الانحراف السياسي من جانب أمريكا تجاه روسيا. مع وجود تلك المشاعر من القلق وعدم الراحة التي يشعر بها الحلفاء الأوروبيون في "الناتو" بشأن قيادة أمريكا لهم في موضوعات العراق وإيران وأفغانستان، وتخوفهم مما قد تقودهم تلك القيادة إليه، فإن المرء كان يتوقع أن أمريكا ستكون قادرة علي إدراك أن النزاع حول نشر الصواريخ الباليستية في أوروبا (والتي وصفها المسئولون الأمريكيون بأنها عبارة عن درع دفاعي ضد الخطر الإيراني حسب تعريف مسئول المكتب الصحفي للبنتاجون) سوف يتسبب حتماً في مشكلات مع روسيا لم يكن لها داع ولم تكن هي- أمريكا- في حاجة إليها في الأساس، علي ضوء المشكلات العديدة التي تواجهها الآن في مختلف بقاع العالم. والمستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" أحد الذين تأثروا علي نحو خاص بذلك الاستفزاز المتضمن في موضوع نشر الصواريخ الباليستية، وهو ما يرجع إلي حقيقة أن الشعب الألماني يتسم بحساسية خاصة تجاه أي شيء يتعلق بالعلاقات مع روسيا، كما أنه لا يحمل الكثير من التعاطف مع الحكومة التي تقود بولندا حالياً والتي كانت سبباً في وصول السجال الدائر حول موضوع نشر الصواريخ إلي ألمانيا بالتواطؤ مع جمهورية التشيك التي يرأسها "فاكلاف كلاوس"، وهي الدولة الأوروبية الثانية المشاركة في مشروع نشر تلك الصواريخ والذي يعرف ب"مبادرة الصواريخ الأمريكية الأحادية الجانب (وكلمة الأحادية الجانب في واشنطن تعني أن المبادرة لا تمر عبر الأطلسي). وتريد ميركل من الأوروبيين أن يصروا علي ضرورة أن يكون للناتو يد في الموضوع، وهو أمر لو حدث فسيؤدي بما لا يدع مجالاً للشك إلي نسف المبادرة الأمريكية من أساسها، حسبما تري واشنطن، وربما يكون هو السبب الذي دعا فريق بوش إلي عدم مقاربة "الناتو" حول الموضوع في المقام الأول. بالإضافة لتجاهل الناتو، فإن المبادرة الأمريكية الصاروخية الأحادية الجانب، كان لها هدف آخر ربما لم يفطن له الكثيرون ألا وهو زرع بذور الشقاق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي القدامي والجدد وهو ما يؤدي تلقائيا إلي تعزيز النفوذ الأمريكي في القارة. إن الصدع بين جانبي الأطلسي آخذ في التزايد التدريجي منذ فترة طويلة، بسبب تضارب المصالح وسوء الإدراك المتبادل لبعض الأمور وتباين الطموحات واختلاف القراءات لحقائق الواقع بين الدول الموجودة علي جانبيه. ولست أري أي غرابة في ذلك في الحقيقة، لأن هذا من طبائع الأمور في العلاقات الدولية علاوة علي أنه ليس بالأمر الجديد لأن الحقيقة التي قد يغفل عنها كثيرون هي أن هذا الصدع قد بدأ منذ عام 1945، بل وربما عام 1940، ولكن تفاقمه تباطأ قليلاً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بسبب الحرب الباردة. ربما يكون الفارق بين صدع الأمس وصدع اليوم هو أن صدع الأمس كان غير ظاهر أو أن الجانبين كانا يحاولان التغطية عليه، أما الآن فإنه قد خرج للعلن. علي العموم فإن هذا الصدع أمر طبيعي كما أشرت، لأن اختلاف الرؤي بين الدول ذات السيادة ليس بالأمر المستغرب، ولا يجب تحت أي ظرف من الظروف أن يشكل حجر عثرة علي طريق التعاون بين تلك الدول وإقامة علاقات طيبة بينها. غير أنه تلزم الإشارة في الوقت ذاته إلي أن هناك عنصرا جديدا من العناصر التي فاقمت من هذا الصدع، قد ظهر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإن لم يتم الاعتراف بها صراحة، رغم أن الجميع يدركونه بالفطرة. هذا العنصر هو أن الإرهاب والطريقة التي تنظر بها إدارة بوش إليه والتي جعلها تتبني رؤي تتسم بالتخوف الشديد تجاه ما يعرف بالعالم غير الغربي، هي رؤيا تختلف اختلافا بيناً عن رؤية أوروبا لهذا العالم.