أكتب تلك السطور من "جراند رابدز" وهي المدينة الثانية في ولاية ميتشجن الامريكية، حيث يقام المعرض الفرعوني "البحث عن الخلود". أكتب تلك السطور من غرفة فندق أنيق للغاية، يتميز بالصفة الأمريكية العملية والحقيقية، فخامة دون ابتذال. وهنا يعيش الامريكيون الحقيقيون، هؤلاء البشر الذين قبل كل واحد فيهم ان يعيش لنفسه كصانع للأحلام البسيطة وقد يكون واحدا من اصحاب القدرات الخلاقة، وان بدت علي ملامح الكثير منهم سذاجة مفرطة. ويتحدثون الانجليزية بسرعة فائقة فيقع نصف الكلام في الطريق من افواههم الي اذنيك، فتطلب منهم ان يعيدوا الكلام من جديد.. وظننت للوهلة الاولي اني وحدي الذي اعاني من عدم سرعة الفهم للكلام، ولكني فوجئت بان كثيرا منهم يعيد الاستفسار عما قاله له احدهم. وعرفت ان المتعلمين منهم فقط هم الذين ينطقون الكلمات بوضوح، اما بقية الناس فاللغة مهشمة بين اطراف ألسنتهم. والحرارة هنا تحت الصفر، ولم تظهر الشمس طوال ثلاثة اسابيع الا عندما اطلت بعض من التماثيل الفرعونية القادمة من الاسرة الثامنة عشرة، وهي الاسرة التي شغلت بابداعها مع الاسرة التاسعة عشرة خيال كل البشر في جميع انحاء المعمورة. فمنها ظهر اخناتون بعد اب ظل معجبا بنفسه الي أعبد الحدود هو امنحتب الثالث، وهو الفرعون الذي عاش طويلا، واستطاع ان يلعب لعبة الثقافة، حيث قام بجذب ابناء القبائل المشاغبة كي يتعلموا في مصر، ويتعلموا حياة الملوك. هنا في "جراند رابدز" غابات من الاشجار علي مساحات غير محدودة، وتقوم صناعة الاخشاب كحاضر اساسي لاغلب السكان، ويقال - مثلا - ان نصف مقاعد ومكاتب المدارس في الكرة الارضية مصنوعة هنا في جراند رابدز. قد تصدق هذا وقد تكذبه، ولكنك عندما تزور متحف المدينة ستفاجأ بان صناعة الاخشاب هنا مرت بمراحل كثيرة، اهمها علي الاطلاق ما دار في القرن التاسع عشر، حيث جاء الصناع المهرة من المانيا وفرنسا وهاجر العديد من ابناء اوروبا ليعمروا هذه المنطقة، ويطلقوا علي نهر صغير جدا - وأنيق جدا - كلمة "جراند رابدز" اي فرع المياه الكبير. وقد اطلقوا علي هذا النهر "نيل الشمال" كتحية لمعرض الآثار المصرية القديمة، وضحكت قائلا لعمدة المدينة: اخشي ان تعلنوا ملكيتكم لاسم النيل، وسنطالب بقيمة اختراع اسم النيل لانه من ممتلكات مصر الفكرية. الثلوج تغطي الشوارع، والأنف يمكن ان يتجمد إن ظللت لفترة بسيطة في الشارع، ولا احد ينتقل من مكان إلي آخر إلا بالسيارة. مستوي الحياة المرتفع جعل الناس في غني عما يحدث في الكرة الأرضية اللهم إلا أي شيء يتعلق بصناعة الأثاث والأخشاب، فالخشب حياة البشر هنا، ومن هذه المنطقة جاء الريفي الطيب جيرالد فورد الذي تولي حكم الولاياتالمتحدة بعد استقالة نيكسون عام 1974، وهو اول نائب رئيس لا ينجح في الانتخابات عندما رشح نفسه ضد كارتر، وكارتر نفسه لم ينجح سوي لدورة رئاسية واحدة، حيث كان كل منهما مؤمنا باهداف انسانية نبيلة، وهذا مالا يتفق مع مزاج الشركات الكبيرة التي تحكم الولاياتالمتحدة فعليا. والشركات الكبيرة في حاجة الي حروب والي اسواق، والي ثروات تتكدس دون نهاية. البشر هنا فرحون بالمعرض الفرعوني الذي يشرح كيفية الحياة بعد الموت، وجمال التماثيل الفرعونية يخلب العقل خصوصا هذا التمثال الصغير الذي يقال له "ماعت" وهو يعبر عن فكرة العدالة التي يتمناها الانسان في الحياة، ولكن البشر يعلمون يقينا ان اسلوب الحياة المعاصرة في كرتنا الارضية قد ضاعت منه فكرة العدالة في ظل المعايير المزدوجة في كل مجال، وعلي هذا ظل حلم العدالة مجرد تمثال صغير يسافر من بلد الي بلد يراه البشر ويحبونه لكنهم لا يجدون له ظلا في حياتهم وواقعهم.