علي مدي أيام خمسة قامت الآنسة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بجولة أوروبية في محاولة لشرح أو احتواء الضجة التي أثيرت حول الرحلات الجوية السرية والتي بلغت أكثر من 400 رحلة لطائرات أمريكية تابعة للمخابرات المركزية إلي بعض العواصم الأوروبية. تلك الرحلات التي تردد أنها كانت تحمل معتقلين متهمين بالإرهاب ونقلهم من وإلي سجون أمريكية خاصة وتحت إشراف مباشر للمخابرات المركزية ومتواجدة في بلدان أوروبية خاصة رومانيا وبولندا حيث يتعرضون للاستجواب والتعذيب. وقامت ضجة هائلة لم تهدأ بعد في أوساط الاتحاد الأوروبي السياسية والإعلامية خاصة البرلمان الأوروبي وجمعيات حقوق الإنسان، حيث اعتبرت ذلك انتهاكاً كالسيادة دول الاتحاد الأوروبي من ناحية، كما اعتبرته من ناحية أخري انتهاكاً لمواثيق حقوق الإنسان حيث يجري التعذيب للمعتقلين بشكل متصل الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بسمعة دول الاتحاد الأوروبي. وذهبت بعض أوساط الاتحاد في بروكسل وفي ستراسبورج حيث يوجد برلمان الاتحاد إلي ضرورة إجراء تحقيقات جادة حول هذا الموضوع والمطالبة بمعاقبة الدول الأوروبية التي سمحت لأمريكا بإقامة معسكرات اعتقال علي أراضيها وحرمانها من حق التصويت داخل الاتحاد لفترة معينة. وكان جاك سترو وزير خارجية بريطانيا والذي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي حتي نهاية ديسمبر قد أرسل خطاباً إلي الخارجية الأمريكية قبل الرحلة التي قامت بها رايس يطالب فيها بعدد من الايضاحات حول هذه القضية. أما المخابرات الأمريكية فكانت قد أصدرت بياناً غامضاً لم تنف فيه أو تؤكد التهم الموجهة إليها بل قالت فيه إن أوروبا تستفيد بشكل كبير من الإجراءات التي تقوم بها أمريكا ضد الإرهاب والتي لابد أن تتم في سرية تامة، وأضاف المتحدث الأمني الأمريكي أن علي الدول الأوروبية أن تتفهم صعوبة مناقشة ذلك الأمر وبشكل علني. أما السناتور الجمهوري جون ماكين فقداتهم أوروبا بأنها تتخذ موقفاً شيزوفرانيا ويتسم بالنفاق في قضية الإرهاب العالمي، وبينما تعاني أوروبا من أحداث إرهابية كبيرة تجري علي أراضيها مثلما حدث في جريمة تفجير محطات مترو الأنفاق في لندن في يوليو الماضي وفي القطارات الأسبانية قبل ذلك، وتصبح هي المستفيد وبدرجة قصوي من الإجراءات الأمريكية ضد الإرهاب، ومع ذلك فهي تحاول خداع الرأي العام بإدانة الإجراءات التي تقوم بها أمريكا تحت دعوي أنها منافية لحقوق الإنسان. أما صحيفة ديرشبيجل الألمانية فقد قالت إن هناك 437 رحلة جوية تابعة للمخابرات الأمريكية عبرت الأراضي والأجواء الألمانية، كان بعضها يحمل معتقلين ومشبوهين وفي طريقهم إلي بعض معسكرات الاعتقال الخاصة التي أقيمت في بعض الدول الأوروبية إلي السجون الأمريكية الخاصة في العراق والشرق الأوسط وأفغانستان، بينما تقدر صحيفة النيويورك تايمز هذه الرحلات الجوية الخاصة أنها لم تزد علي 317 رحلة منذ أحداث سبتمبر 2001. حاولت كونداليزارايس احتواء الموقف أو التخفيف من حدته أثناء زيارتها الأوروبية الأخيرة التي بدأت ببرلين في ألمانيا ثم بوخارست "رومانيا" ثم كييف أوكرانيا وانتهت في بروكسل حيث حضرت المجلس الوزاري لدول الأطلنطي. وفي كل هذه المحطات الأوروبية المهمة حاولت رايس التأكيد علي أن أمريكا لم تنتهك القانون الدولي وسيادة بعض الدول الأوروبية، كما حاولت التأكيد علي أنه لم ترتكب أية جرائم تعذيب ضد المعتقلين أما فيما يتعلق بخرق سيادة الدول الأوروبية التي مرت بها الطائرات الأمريكية الخاصة، فإن الطائرات المدنية بشكل عام غير مطالبة بابلاغ الدول التي تمر بأجوائها أو حتي تهبط في مطاراتها لطبيعة وصفة من عليها. ولكن رايس حاولت أيضاً أن تقدم بعض التنازلات والترضيات حين اعترفت بأنه كانت هناك بعض الأخطاء التي لابد من تداركها وإصلاحها وضربت مثلاً بذلك بخطف المواطن الألماني الجنسية والعربي الأصل خالد المصري من مقدونيا ونقله إلي أفغانستان للتحقق معه في قضايا الإرهاب، ثم ثبت بعد ذلك براءته، وأعلنت رايس اعتذارها رسمياً عن هذا الخطأ الذي لن يتكرر. وعكست تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية وتعهداتها أمام وزراء خارجية الأطلنطي، بالتزام أمريكا بكل مواثيق الأممالمتحدة التي تنظم معاملة السجناء المعتقلين وجود خلافات بين الخارجية الأمريكية والبنتاجون والبيت الأبيض حول هذه الممارسات. وقد أعلنت هولندا علي لسان وزير خارجيتها في اجتماع مجلس حلف الأطلنطي الذي حضرته رايس أنها لن ترسل أي قوات إضافية إلي أفغانستان ما لم يكن هناك اتفاق واضح علي إدانة أي امتهان أو تعذيب للمعتقلين المشتبه بهم. يوجد في أفغانستان حوالي 12 ألف جندي أمريكي، 5.9 ألف جندي من دول الأطلنطي. وهولندا التي قادت هذه المرة الحملة ضد أمريكا في أروقة الأطلنطي تمثلت الدرس المؤلم جيداً حينما قام الصرب بإجراء مذابح لآلاف من أهالي البوسنة بمن فيهم الأطفال والنساء تحت سمع وبصر قوات الطوارئ الدولية التي كانت في الأساس قوات هولندية الأمر الذي ولد إحساساً عميقاً بالذنب لدي الهولنديين. ولذلك كان حرص الحكومة الهولندية علي الإعلان عن اصرار هولندا داخل الأطلنطي وداخل المجموعة الأوروبية بأنها لن تسمح بتكرار ذلك مرة أخري ولن تكون هولندا مشاركة أو صامتة إزاء أية جرائم تعذيب واعتقال خارج القوانين والقواعد الدولية وحقوق الإنسان. وبالرغم من الاتفاق الذي عقدته كونداليزارايس مع الحكومة الرومانية لإقامة قواعد عسكرية وتسهيلات بحرية في نفس المواقع التي كانت تتواجد فيها قواعد حلف وارسو، ورغم التفسير الذي خرجت به بعض الصحف الأوروبية بأن هذا الاتفاق هو محاولة لإعطاء شرعية للسجون الأمريكية الخاصة في رومانيا أسوة بمعتقل جوانتنامو الشهير المتواجد علي قاعدة عسكرية أمريكية في الأراضي الكوبية. بالرغم من ذلك فقد قدمت وزيرة الخارجية الأمريكية تنازلات واضحة في اجتماع الأطلنطي في بروكسل حيث تم الاتفاق علي ضرورة إخطار الصليب الأحمر والهلال الأحمر فور اعتقال أي مشتبه إضافة إلي أن هذا الاعتقال لا يجب أن يزيد علي 96 ساعة يسلم بعدها إلي سلطات التحقيق المعنية والقانونية. وفي كل الأحوال، فمازال الملف مفتوحاً، ولم تستطع تنازلات رايس وتعهداتها بإصلاح كل الأخطاء السابقة إغلاق الملف ووقف الحملة الواسعة التي تشنها الصحف وأجهزة الإعلام الأوروبية خاصة الألمانية والفرنسية والهولندية ضد الانتهاكات الصارخة التي تقوم بها الولاياتالمتحدة لحقوق الإنسان وحقوق الدول والمواطن الأوروبي تحت دعوي محاربة الإرهاب. ولعل أكبر مثل يقدمه الأوروبيون في هذا الصدد هو الغزو الأمريكي للعراق والذي وقفت ضده دول أوروبية أساسية مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ثم أسبانيا حيث إن الغزو الأمريكي للعراق قد أدي في واقع الأمر إلي توسيع رقعة الإرهاب وعولمته.